مكانة المحكمة الدستورية وإدارة القضاء في السودان (9)
فريق شرطة(حقوقي)
د. الطيب عبدالجليل حسين محمود
المحامي إستشاري القانون والموثق
(Eltayeb2hussein@gmail.com - Eltayeb.hussein@yahoo.com
عقلية ومنطق ومنهجية وتفكير قاضي المحاكم العادية الابتدائية والأعلى
----------------------
لفهم الفلسفة والتوجهات الفكرية القانونية لقاضي المحاكم العادية (الموضوع، الاستئناف، النقض، المراجعة، الفحص)، نحتاج إلى النظر لكل درجة من درجات التقاضي لمراحل مسيرة الدعوى القضائية، باعتبار مراحل درجات التقاضي، ليست مجرد مستوى إجرائي، بل منظومة توجهات فكرية قانونية مختلفة، تحدد طريقة القاضي في تحليل الوقائع وتطبيق القانون. إذ يشكّل القاضي في مختلف درجات التقاضي، حجر الزاوية في منظومة العدالة، ليس فقط بوصفه مُطبّقاً للنصوص القانونية، بل باعتباره فاعلاً فكرياً وفلسفياً، ومهندس إجتماعي سياسي قانوني، تتباين رؤيته وأدواته العملية التقنية من القانون، لإرساء دعائم العدل والعدالة، وهندسة وإعادة هندسة المجتمع نحو الاستقرار والأمن والطمأنينة، لتشكيل وإعادة تشكيل منظومات الأمن القانوني والأمن القضائي، تبعاً لموقع القاضي في السلم القضائي.
فالقضاء العادي – عبر درجاته المتعاقبة من محكمة الموضوع، مروراً بالاستئناف، فالنقض، ثم المراجعة، وأخيراً الفحص – لا يمثل مجرد تسلسل إجرائي، بل يعكس اختلافاً عميقاً في البنية العقلية والمنهجية لكل قاضٍ. فقاضي الموضوع، ينطلق من واقعية ميدانية، تستند إلى فحص الوقائع والأدلة. بينما القاضي في دائرة محكمة الاستئناف، يتبنى منظوراً نقدياً تقويمياً لحكم قاضي محكمة البداية/ الموضوع / الابتدائية، نظراً في الحكم من حيث الشكل والإجراءات والموضوع، وسيلته الاخذ بمنهجية الموازنة بين ما تم إنجازه في مرحلة التقاضي أمام محكمة الموضوع الابتدائية/ محكمة البداية، وما كان يجب أن يُنجز. أما القاضي في دائرة محكمة النقض في المحكمة العليا، يتصرف بوصفه الحارس الأمين لوحدة القانون وصحة تطبيقه، مركّزًا على تصحيح الأخطاء القانونية والإجرائية الصادرة عن المحاكم ذات الدرجات الأدنى. بينما قاضي دائرة المراجعة في المحكمة العليا، يتجاوز مجرد تصحيح الأخطاء القانونية والإجرائية، إذ يتدخل في الأحكام عند وجود مقتضٍ لذلك، ليوازن بين القانون، المبادئ الدستورية العليا، والعدالة الموضوعية، مع الأخذ في الاعتبار تأثير هذه الأحكام على استقرار النظام القضائي. وأخيرا قاضي دائرة محكمة الفحص، يملك سلطة التدخل الشامل في الأحكام الصادرة عن جميع الدوائر الأدنى، بما يشمل المراجعة والنقض، لضمان انسجام القانون مع المبادئ العليا للعدالة، ودعم الاستقرار القضائي العام.
ولذلك، دراسة الفلسفة والتوجهات الفكرية القانونية وتصوراتها لكل قاضي في مراحل مسيرة التقاضي، تتيح فهماً أعمق لكيفية صناعة الأحكام القضائية وإصدارها، وضمان التوازن بين الحق والقانون والإجراءات في إطار الدولة القانونية الحديثة. وبالتالي، استقراء الفلسفات والتوجهات الفكرية القانونية لقضاة المحاكم العادية عبر مستويات درجاتها المختلفة، يكشف عن تنوّع منهجي، يثري المنظومة القضائية، ويمنحها القدرة على التكيّف مع تعدد صور النزاعات وتعقّدها. فقاضي محكمة الموضوع (الفرد)، يرسخ قاعدة الوقائع التي تُبنى عليها بقية مراحل التقاضي. وقاضي دائرة محكمة الاستئناف (ثلاثة أعضاء قضاة إستئناف)، يضفي البُعد النقدي التصحيحي لأحكام وتدابير قاضي محكمة الموضوع الابتدائية / محكمة البداية. بينما قاضي دائرة محكمة النقض (ثلاثة قضاء محكمة عليا)، يضمن وحدة القانون واستقراره. ويأتي قاضي دائرة المراجعة (خمسة قضاة محكمة عليا)، ليعيد فتح باب العدالة عند الضرورة، بوصفه درجة تقاضي أعلى، والحارس الأخير للعدالة النهائية، يراجع الحكم حتى بعد مروره بمرحلة النقض، إذا ظهرت أسباب استثنائية تتطلب المراجعة (واقعة من القانون أو قاعدة من القانون)، ولم يتطرق لها قاضي النقض، أو حقائق جوهرية مطروحة ( للنقاش حولها/ بشأنها)، أغفلها قاضي دائرة محكمة النقض. وبينما قاضي دائرة محكمة الفحص (خمسة قضاة محكمة عليا على الأقل، ولم يشاركوا في دائرة المراجعة)، يضطلع بدور الضابط الإجرائي الذي يحمي المحكمة العليا من الطعون غير الجدية.
ويمثل هذا التمايز في الأدوار، انعكاساً لفلسفات قانونية متباينة – من الواقعية القانونية إلى الوضعية الصارمة – تتكامل في خدمة غاية واحدة، ألا هي، تحقيق العدالة، وصون الحقوق. فالوعي باختلافات درجات مستويات مراحل التقاضي، لا يسهم فقط في فهم آلية عمل القضاء، بل يساعد أيضاً على تطوير التشريعات والإجراءات، بوضع مبادئ قانونية قضائية (سوابق قضائية) ترسيها المحاكم الأعلى، مأخوذة من قاعدة منصوص عليها في القانون، بما يضمن، كفاءة النظام القضائي، وفاعليته في ظل التحولات القانونية والاجتماعية المعاصرة. وتبعا للاستراتيجية – وحيث الاستراتيجية مقصودها ومعناه، الطريقة المنهجية والفلسفية والقانونية التي يختارها القاضي، للتعامل مع الملفات القضائية، بمنهجات تحليل الوقائع، تطبيق القانون، وحماية العدالة العامة وفق موقعه في السلم القضائي. فعندما نتحدث عن الاستراتيجيات التي يتخذها كل قاضي في مراحل التقاضي، لا نقصد بالضرورة استراتيجية شخصية للقاضي، بمعنى تكتيكات للنجاح، بل نقصد نهجًا منهجيًا وفلسفيًا في التعامل مع القضايا والملفات القضائية، وبالتأكيد الاستراتيجيات، تختلف باختلاف موقع القاضي في السلم القضائي، وطبيعة الدائرة التي ينتمي إليها.
وللتوضيح، نتناول بإيجاز غير مخل، عقل والفلسفة والتوجهات الفكرية القانونية والإسترايجية، لكل قاضي في هرمية مراحل مسيرة الدعوى القضائية:
(أولاً) قاضي محكمة الموضوع (الابتدائية):
----------------------
قاضي محكمة الموضوع الابتدائية / محكمة البداية، هو المسئول الأول عن دراسة الدعوى القضائية، والمسئول عن فحص الوقائع المقدمة من طرفي / أطراف الدعوى القضائية. ويتميز بفلسفة قضائية مركزة على الموضوعية، وتطبيق القانون بشكل مباشر على الوقائع. واستراتيجيته القضائية والقانونية، تنبع من اهتمامه، بتحليل الأدلة، وتقييمها بدقة، مع مراعاة التوازن بين العدالة والإجراءات القانونية. والفكر القانوني القضائي لقاضي محكمة الموضوع الابتدائية / محكمة البداية، يميل إلى التأكيد على الأمن القانوني لأطراف الدعوى القضائية المتنازعين، حيث يشكل الحكم والقرار القضائي الصادر من قاضي محكمة الموضوع، الأساس الذي تُبنى عليه جميع درجات التقاضي اللاحقة.
وعقلية قاضي محكمة الموضوع، تقوم على هندسة العلاقات المباشرة بين الأفراد وفق القانون، إذ يسعى إلى إعادة ترتيب النزاعات الاجتماعية بطريقة، تحفظ الحقوق، وتمنع الظلم المباشر، مستفيدًا من مبادئ العدالة الإجرائية. وبمعنى وقول آخر، قاضي محكمة الموضوع، يؤثر على مسار الدعوى القضائية، بوضع الأساس القانوني للدعوى، ويؤثر مباشرة على القرارات اللاحقة لدرجات التقاضي العليا. ويبني استراتيجيتة القضائية والقانونية، بتحليل الأدلة بدقة، وتحقيق التوازن بين العدالة والإجراءات. وفلسفتة القانونية، التركيز على الموضوعية، وتطبيق القانون على الوقائع.
(ثانياً) قاضي دائرة محكمة الاستئناف:
----------------------
محكمة الاستئناف، دائرة مشكلة من ثلاث أعضاء قضاة إستئناف، وحيث قاضي الإستئناف الفرد، أعلى من قاضي محكمة البداية (محكمة الموضوع) القاضي الفرد. وبذلك، قاضي الإستئناف بصفته عضو دائرة محكمة الاستئناف، يقوم بدور موازن / يوازن بين الوقائع والقانون. فهو(أي قاضي الإستئناف) يعيد فحص الدعوى القضائية من منظور نقدي وتفسيري، مع التركيز على فحص مدى التزام قاضي الموضوع بالقانون والاجراءات. وفلسفته القانونية، تجمع بين، التحقق من صحة الإجراءات، وتحليل التفسير القانوني. بينما استراتيجيته القضائية والقانونية، تركز على ضمان التوازن بين، حماية الحقوق الفردية، وضمان استقرار القانون. وبهذا، يصبح قاضي دائرة محكمة الاستئناف، نقطة حاسمة لإعادة توجيه الدعوى، أو تصحيح المسار القانوني للدعوى، دون المساس بالأساس الموضوعي للحكم الابتدائي لمحكمة الموضوع. وفلسفتة القانونية، التحقق من، صحة الإجراءات، وتفسير القانون.
وعقلية قاضي الاستئناف، تسعى إلى تعزيز الثقة في النظام القضائي، من خلال توحيد التفسير القانوني، ما يعكس فلسفة إعادة هندسة العلاقات الاجتماعية عبر تصحيح الخلل في التطبيق القضائي الأولي. وبمفهوم آخر، قاضي الاستئناف في دائرة محكمة الاستئناف، بصفته قاضي إستئناف، يؤثر على مسار الدعوى القضائية، بضمان التوازن بين، حماية الحقوق الفردية، وإستقرار القانون. وإستراتيجيته القضائية والقانونية، إعادة التوجيه القانوني، وتصحيح الاخطاء، دون المساس بالأساس الموضوعي للدعوى القضائية. وفلسفته القانونية، التحقق من صحة الاجراءات، وتفسير القانون.
(ثالثاً) قاضي دائرة محكمة النقض:
----------------------
قاضي دائرة النقض، قاضي محكمة عليا، وبصفته عضو دائرة محكمة النقض، فهو يمثل الحارس الأمين للوحدة القانونية(الأمن القانوني). وفلسفته القانونية، ترتكز على تصحيح الأخطاء القانونية والإجرائية، التي تنتج عن المحاكم الأدنى. واستراتيجيته القضائية والقانونية، ترتكز على التدقيق في صحة تطبيق القانون وتفسيره، مع مراعاة مبادئ العدالة والإجراءات الموحدة لمسيرة الدعوى القضائية. والفكر القضائي لقاضي دائرة محكمة النقض، يركز على، استقرار القانون، وتوحيد تطبيقه، ما يجعل دوره محوريًا في ضمان الأمن القضائي (رضاء المجتمع وثقته قي القضاء)، وضمان الأمن القانوني (سلامة حسن تطبيق القانون كما هو Law as is it is)، خصوصاً عند معالجة الاختلافات القانونية بين المحاكم الأدنى.
فقاضي دائرة النقض، يمثل العقلية القانونية العليا، التي تركز على تطبيق القانون، بشكل صارم، واتساقه مع المبادئ العامة. وهنا، الهدف ليس تعديل الوقائع، بل حماية القانون من الانحراف وضمان استقراره، ما يعكس إعادة هندسة العلاقات الاجتماعية على مستوى المبدأ القانوني والعدالة المؤسسية. أي بمعنى، قاضي المحكمة العليا في محكمة النقض، يؤثر في مسار الدعوى القضائية، بتعزيز الأمن القضائي للمتقاضين، وتوحيد تطبيق القانون عبر المحاكم الأدنى. وإستراتيجيته القضائية والقانونية، التدقيق في تطبيق القانون وتفسيره، وتوحيد الاجتهاد القضائي. وفلسفته القضائية، حماية الوحدة القانونية، وتصحيح الاخطاء القانونية الموضوعية والاجرائية.
(رابعاً): قاضي دائرة المراجعة:
----------------------
قاضي دائرة المراجعة، قاضي محكمة عليا، وبحكم عضويته في دائرة المراجعة، يمثل أعلى درجة في هرم القضاء. ويتميز بقدرة فلسفية واستراتيجية واسعة على، توجيه القانون وفق رؤية شاملة لبلوغ غايات الامن القضائي والأمن القانوني. وفلسفته القانونية، تركز على، توحيد الاجتهاد القضائي، وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للنظام القضائي ككل. واستراتيجيته القضائية والقانونية، تتضمن تقييم الأحكام السابقة على ضوء المعايير القانونية العليا (القيم العليا للقانون والعدالة)، وضمان انسجامها مع التوجهات العامة للعدالة، ما يجعله عنصرًا أساسياً في صياغة معايير قانونية مرجعية (سوابق قضائية)، بإستنباط مبدأ قضائي قانوني، مأخوذ من قاعدة قانونية من القانون. واستراتيجيته القضائية والقانونية، تقييم الاحكام السابقة وفق معايير العدالة العليا، وضمان إنسجامها. وفلسفته القانونية، توحيد الاجتهاد القضائي، وتحقيق الاهداف الاستراتيجية للنظام القضائي.
وعقلية قاضي دائرة المراجعة، تجمع بين الفلسفة القانونية، والبعد الاجتماعي، إذ يساهم في إعادة هندسة العلاقات بين الأطراف المتقاضيين، وفق معايير استثنائية، مرتبطة بالشرعية الدستورية والأدلة الجديدة. فقاضي دائرة المراجعة، بصفته قاضي محكمة عليا عضواً في دائرة المراجعة، يؤثر على مسار الدعوى القضائية، بصياغة معايير قانونية مرجعية، وتوجيه القانون بشكل استراتيجي شامل.
وواقع قانون وعملي، نجد في بعض الأنظمة القانونية المقارنة، تُخضع مراجعة أحكام محكمة النقض لإجراءات خاصة، حيث يشترط الحصول على إذن مسبق لتقديم طلب المراجعة، ويُرفع هذا الطلب إلى رئيس القضاء أو من يفوضه من قضاة المحكمة العليا (قاضي فرد)، له صلاحية وسلطة رفض أو قبول المراجعة. غير أنّ الممارسة الراسخة تقتضي أن يُنظر في هذا الطلب من خلال غرفة مراجعة بالمحكمة العليا، تفصل فيه بشكل جماعي، ضماناً للتوازن والموضوعية. كما أن الاختصاص الأصيل بالفصل في طلبات المراجعة، ينعقد للمحكمة العليا بكامل هيئتها أو لغرفها، ولا يُناط بقاضٍ فرد بمفرده. وعلى ذات النهج، تُعتمد آلية الإذن بالاستئناف Leave to Appeal في بعض الأنظمة، حيث تُخضع لمعايير موضوعية معلنة، وتُبت فيها بواسطة هيئة قضائية جماعية، وليس بواسطة قاضٍ واحد فرد، تعزيزاً لمبدأ الشفافية والعدالة القضائية.
(خامساً) قاضي دائرة الفحص:
----------------------
قاضي دائرة الفحص، هو أحد قضاة المحكمة العليا، ويمثل بحكم موقعه قمة هرمية التقاضي. وبصفته عضواً في دائرة الفحص، فإنه يضطلع بمهمة التصفية النهائية للأحكام القضائية الصادرة من مختلف الدوائر، مما يعكس مستوى متقدمًا من العقل القضائي الاستراتيجي، بما يجسد ذروة العقل القضائي الاستراتيجي. وتقوم فلسفته القانونية على، تحقيق الأمن القضائي النهائي، وضمان الاتساق التام والكامل مع المبادئ الدستورية والقانونية العليا. واستراتيجيته القضائية، تتمثل في مراجعة ما يصدر من أحكام – متى كان لذلك مقتضى ضروري – بما في ذلك الصادرة عن دائرة المراجعة. ما يجعله، من خلال عضويته في دائرة الفحص، بمثابة القاضي الذي يمنح الختم النهائي للعدالة. وبذلك، يتجاوز دوره التدقيق الإجرائي ليصبح الضمانة النهائية لوحدة القضاء واستقرار النظام القانوني..
وتبعا عليه، عقلية قاضي الفحص، عقلية قانون، تجمع بين الكفاءة الإجرائية والعدالة، حيث تعيد هندسة العلاقات الاجتماعية على مستوى المؤسسة القضائية، مما يعزز، الثقة في النظام القانوني، ويحقق الاستقرار الاجتماعي. فهي عقلية، أبعد من مجرد مراقب للطعون القضائية في أحكام محكمة النقض؛ بل هي عقلية قاضٍ نهائي، يعيد هندسة العلاقات القانونية والاجتماعية بترتيب وإعادة ترتيب العلاقات القانونية والاجتماعية على قمة أعلى مستوى، بحيث توازن أحكامه وقراراته القضائية(موازناً)، بين حماية القانون والمبادئ الدستورية من جهة، وتحقيق العدالة الجوهرية والأمن القضائي من جهة أخرى.
وإن كانت بعض الانظمة القانونية، تُمنح دائرة محكمة الفحص صفة استشارية، حيث تقوم بإعداد دراسة شاملة لملف الدعوى القضائية، مع التركيز على الوقائع والأدلة والتحقق من استيفاء الإجراءات الأساسية.. بناءً على ذلك، يضع قاضي محكمة الفحص الأساس لتقييم قانونية الدعوى وجدواها قبل انتقالها إلى درجات التقاضي الأعلى. ويضطلع قاضي الفحص أو هيئات فحص الطعون بدور المرشح القضائي الذي يحدد جدية الطعون في الأحكام قبل عرضها على المحاكم العليا. وتحقق هذه الآلية غاية مزدوجة: الغاية (الأولى) حماية المحكمة العليا من تراكم الطعون غير الجدية، والغاية (الثانية) ضمان تركيز الجهد القضائي على القضايا ذات القيمة المعيارية. وهذه المحكمة منشأة ضمن بنية محكمة النقض في المحكمة العليا، لتصفية الطعون قبل عرضها على الهيئة العامة.
وتبعاً للصفة الاستشارية لدائرة الفحص، وظيفة محكمة الفحص، أو الهيئة المختصة بذلك، لا تقتصر على إصدار حكم نهائي، بل تتمثل في التحقق من جدية الطعن في الاحكام القضائية قبل قبول طلب الطعن(تماثل غرفة الفصل في طلبات المراجعة في بعض الانظمة القانونية). وتقوم فلسفة هذه الدرجة من التقاضي على، تحقيق توازن بين حق الأفراد في الوصول إلى النقض(نقض الحكم القضائي)، وحق الدولة في حماية مواردها القضائية من الاستنزاف الناتج عن الطعون الكيدية أو غير المؤسسة. وبذلك، تشكل محكمة الفحص، مستوى إجرائيًا وقائيًا، يهدف إلى حماية النظام القضائي، من تراكم القضايا المطعون فيها لفترات طويلة، وضمان وصول القضايا الجادة فقط إلى محكمة النقض أو المراجعة.
وتستند فلسفة قاضي محكمة الفحص إلى مبدأ الكفاءة الإجرائية، باعتباره جزءاً مكملًا للعدالة، إذ لا تتحقق العدالة فقط بالإنصاف، بل أيضاً بالسرعة والفعالية في معالجة القضايا. ويجمع قاضي محكمة الفحص بين أدوات النقض والمراجعة، مع الالتزام بمعيار استثنائي مرتبط بالشرعية الدستورية، أو ظهور أدلة جديدة، بما ينسجم مع فلسفته القانونية، الرامية إلى تكريس الأمن القضائي النهائي، وضمان الاتساق مع المبادئ الدستورية والقانونية العليا، وترسيخ اليقين القانوني كغاية أساسية للنظام القضائي. وبذلك، يوازن قاضي محكمة الفحص بين مطلبين: المطلب (الأول) مطلب الدولة القانونية، المتمثل في حماية النصوص القانونية وصونها؛ والمطلب (الثاني) مطلب الدولة العادلة، المتمثل في إنفاذ روح العدالة، حتى من خلال أدوات استثنائية مرتبطة بالشرعية الدستورية أو الأدلة الجديدة. ويظهر هذا الجدل بوضوح بين الدولة القانونية التي تركز على حماية القانون، والدولة العادلة التي تركز على تحقيق العدالة. وفي بعض الأنظمة القانونية، تُمنح محكمة الفحص دوراً أقرب إلى محكمة العدالة، حيث تصدر أحكامًا بعد فحص محضر المحاكمة لأسباب موضوعية عادلة، ودون التقيد بالقيود الزمنية للإستئناف في محكمة الاستئناف، أو القيد الزمني للطعن في محكمة النقض، بما يسمح بمعالجة القضايا القضائية على أساس جديتها وموضوعيتها، بعيداً عن القيود الشكلية الصارمة.
وعموماً، يمكن النظر إلى مكانة قاضي دائرة الفحص ضمن مستويات التدرج في درجات التقاضي باعتبار عقليته القانونية عملية متكاملة لهندسة وإعادة هندسة العلاقات الاجتماعية والقانونية. تبدأ هذه العملية بتدخل قاضي محكمة الموضوع المباشر، مروراً بالتصحيح والتوحيد في الاستئناف والنقض، وصولًا إلى التصفية الاستراتيجية والنهائية لقاضي المراجعة ودائرة الفحص الأعلى، بما يضمن العدالة الفعلية، والأمن القضائي النهائي، واستقرار النظام القانوني والمجتمع ككل. بإعتبار قاضي دائرة الفحص، يمثل قمة الذروة النهائية للممارسة القضائية، جامعًا بين، السلطة الموضوعية، والكفاءة الإجرائية، والتوازن بين العدالة القانونية والاجتماعية، ليكون الضمانة الحاسمة لوحدة القضاء واستقرار النظام القانوني والمجتمع.
وللحديث بقية، نتناول فيه، المقارنة بين عقل قاضي المحكمة الدستورية وعقل قاضي المحاكم العادية، إلى جانب تناول معايير ضمانات المحاكمة العادلة على المستويين الدستوري والقانوني، والممارسات الدستورية والقضائية.
فريق شرطة(حقوقي)
د. الطيب عبدالجليل حسين محمود
المحامي إستشاري القانون والموثق
15 أغسطس 2025م
📌لمتابعة جميع المقالات و الاخبار و الوظائف و الدورات التدريبية القانونية عبر قروبات "وعي قانوني" انضم لاحد القروبات