قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية وتشريعاتها في السودان

موجز الاخبار

قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية وتشريعاتها في السودان


ورقة بحثية عن:

قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية وتشريعاتها في السودان

(الإشكاليات والحلول)


إعداد:

لواء شرطة حقوقي  د.  الطيب عبد الجليل حسين محمود - المحامي واستشاري القانون. 
(Eltayeb2hussein@gmail.com -  Eltayeb.hussein@yahoo.com)

الخرطوم : خدمات قانونية : 

شبكة المحامين المستقلين - السودان.

بالتضامن مع إتحاد المحاميين السودانيين.

وشبكة المكتب القاري للمحاماة وإستشارات القانون - السودان.

العمارات شارع 61 شمال دار المحامين عمارة البدر شقة 3.


قضاء ومحاكم القوات النظامية وتشريعاتها


(القضاء العسكري يمثل بالنسبة للعدالة، ما تمثله الموسيقى العسكرية بالنسبة للموسيقى). مقولة مسندة للرئيس الفرنسي جورج بينجامين كليمنصو Georges Benjamin Clemenceau، الرئيس الثاني والسبعين، والرئيس الخامس والثمانين، لجمهورية فرنسا، وميلادة 1841م ووفاته 1929م.

1. مدخل وتمهيد: 

دواعي الإختيار لموضوع الورقة، لعملي في الشرطة السودانية ضابطاً برتبة الملازم شرطة بتاريخ 03/01/1982م وتقاعدي القسري الإجباري في المعاش بإنهاء خدمتي في الشرطة تعسفياً بتاريخ 03/06/2013م برتبة اللواء شرطة(حقوقي). واللقب المهني(حقوقي) لحصولي على المؤهل العلمي شهادة البكالوريا في القانون وشهادة تنظيم مهنة القانون. ولدراستي العلوم السياسية شهادة الدبلوم العالي في علم العلاقات الدولية، وإجازة الدكتوراة في التشريع وصناعة القانون. ولعملي مُدد عديدة متفاوته في أعمال القانون ومحاكم الشرطة، ومزاولة العمل الجنائي في أقسام الشرطة، وأعمال الضبط الإداري في أعمال الجوازات والهجرة والجنسية، وأعمال إدارة وتنظيم حركة السير والمرور، وأعمال الدفاع المدني. ولعملي الإداري النوعي في إدارة ضبط أسلحة وذخائر قوات الشرطة، بوضع خطط تسليح الشرطة، وتحديد نوعية وحاجة الشرطة من الأسلحة والذخائر، وتنفيذ خطط التسليح مع القوات المسلحة ووزارة المالية، والمشاركة والمساهمة مع قيادات الشرطة 1986م ـ 1988م في وضع تصور فك إرتباط تسليح الشرطة من القوات المسلحة، بوضع وتنفيذ خطة تحديث وتنويع مصادر تسليح الشرطة، بإعداد وتنفيذ خطة قرض السلاح اليوغسلافي. ولعملي في أعمال الإحتياطي المركزي، كقوات تدخل سريع للسيطرة والحدّ من النزاعات والأزمات الأمنية وحالات الطوارئ. ولعملي في مسارح العمليات القتالية في ولايات بحر الغزال، قبل فصل دولة جنوب السودان. ومشاركاتي العديدة الداخلية في عدد من اللجان الفنية ذات الصلة بأعمال الشرطة وتشريعاتها، ومشاركاتي في مؤتمرات خارجية ذات صلة بأعمال وزارة الداخلية ووزارة العدل ذات صلة بأعمال الشرطة تحت مظلة اللجان الفنية لمجلسي وزراء الداخلية والعدل العرب في جامعة الدول العربية، وأعمال مجلس وزراء الداخلية العرب في جامعة الدول العربية.

ولإستشعاري العديد من مواطن الخلل في تشريعات قوانين أجهزة القوات النظامية (قوات الشرطة، القوات المسلحة، جهاز المخابرات العامة). ولملاحظتي وجود إختلالات في المنظومة الحقوقية والعدلية لمنسوبي القوات النظامية، لإجراءات حالات إنهاء الخدمة تعسفياً ً بلا سبب موضوعي، ووجود تشوهات عدلية في إجراءات المحاكمات أمام محاكم أجهزة القوات النظامية. ولإفتقار مكتباتنا أدبيات الكتابات المتخصصة من المهتمين المتخصصين بالشئون العدلية والحقوقية لأجهزة القوات النظامية، لأن أجهزة القوات النظامية ركيزة هامة وحاجة ضرورية للدولة، لتوفير وظيفة الخدمة والحماية الأمنية لأفراد المجتمع. لإعتبار الدولة جهاز إصطناعي معقلن من صنع البشر، ويتكون من سلطات ثلاثة تشريعية وتنفيذية وقضائية، لخدمة المصلحة العامة والمصلحة الخاصة لأفراد المجتمع والدولة، وحيث تخضع أجهزة الدولة الثلاثة لقواعد القانون العام والخاص. (1)

وأخيراً وليس آخراً، إمتهاني المحاماة(قضاء واقف) مهنة إستظهار الحقائق، لتحقيق العدل وتأكيد سيادة القانون مشاركة مع السلطة القضائية(القضاء الجالس). ولمباشرتي العديد من القضايا والمنازعات الدستورية والإدارية والمدنية والجنائية أمام المحاكم، إدعاء أو دفاع عن منسوبي وأفراد أجهزة القوات النظامية وغيرهم من المدنيين اللانظاميين. ومؤداه، ملاحظتي إرتباط وظيفة خدمة أفراد منسوبي أجهزة القوات النظامية بمسائل حقوق الإنسان الدستورية والقانونية. الأمر الذي يثير دواعي وأسباب ومشروعية وشرعية وجود قضاء ومحاكم خاصة خارج مظلة السلطة القضائية.(2) كما أنه ومن مسيرة عملي في مهنة القانون في الوظيفة العامة(ضابط شرطة) وأكاديمي ومحامي، وما لمسته من حوارات ومناقشات متعددة في كثير من دول العالم في أمريكا الشمالية وأوروبا والدول العربية والآسيوية والأفريقية عن واقع قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، والمحاكم الأخرى الخاصة، لتناولهم واقع القضاء العسكري ومرئياتهم أن يكون موضعه ضمن منظومات القضاء المدني في تلك الدول، وما ينادي به المختصون في أروقة الأمم المتحدة، وفي منظومات حقوق الإنسان المهيكلية في الجماعة والمجتمع الدولي، وبما في ذلك التشريعات الدولية للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساتي. السؤال الذي بدر وطرح نفسه عندي، سؤال ماهية قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية؟ هل قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، مستوى رصيف موازي للسلطة القضائية ومحاكمها؟ وبالتالي، لوجود السلطة القضائية كسلطة مستقلة عن بقية أجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية. السؤال هل نحن أمام مستويات لأنظمة قضائية متعددة؟ وسؤال جوهري وأساسي يطرح نفسه بسؤال، ما هي مشروعية وشرعية قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية؟ وهل قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، يتوافر فيها معايير وأسس تولي وظيفة القضاء؟ وبالتالي، في ظل حتمية وواقع وجود قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، هذه الورقة تطرح سؤال جوهري، هل النظام القضائي في السودان نظام متعدد؟  

2. مفاهيم معرفية إصطلاحية:

بدءاً لبيان موضوع الورقة البحثية المقدمة، لا بد من توضيح معاني الكلمات والعبارات المستخدمة، بتفكيك عنوان موضوع الورقة. ومع بيان إستخدام وإستعارة عبارات القضاء العسكري والمحاكم العسكرية، للحديث عن قضاء الشرطة ومحاكم الشرطة، بحسبانهما من أجهزة القوات النظامية في

وتتبع للسلطة التنفيذية، وذلك بحسبما سيرد في موضعه في الحوارات والمناقشات الفكرية والفقهية،

وفي القانون الدولي والقانون المقارن، ونشير لها على النحو التالي:

قضاء: 

للدلالة التعبيرية لكلمتي القضاء Judicial والقاضي Judge، والقضاء هو نظام الحكم فصلاً في المنازعات والخصومة بين الأفراد في دولة ما، وتتولى السلطة القضائية شئونه. والقضاء في القدم كان عمل يتم على يد الرسل ورجال الدين، وكانت تطبق الشرائع السماوية. أما في وقتنا الحالي، فهو عمل يتم على يد القضاة من بين مواطني الدولة، ويختارون من بين دارسي القانون، ويطبقون القانون الوضعي. والقاضي يحقق العدل في الأرض، ويختار وفق معايير خاصة تتفق مع هذه المسؤولية المهمة الملقاه على عاتقه. والقضاء والقاضي، تعبير يطلق للدلالة على أحد المصادر التفسيرية التشريعية للقانون، بمعنى أنه من المصادر المفسرة المشرعة للقانون.

محاكم:

للدلالة التعبيرية لكلمة المحكمة Court، والمحكمة في القانون المدني سلطة من سلطات الدولة، تحسم المنازعات وتُطَبّق العدالة. وتقوم المحاكم بالفصل في منازعات الأفراد والمنظمات والحكومات. وهي تصدر الحكم بإدانة أو براءة الأشخاص المُتّهمين بارتكاب الجرائم في الجنايات، ثمّ توقّع العقوبات على المذنبين. وتصدر الأحكام التقريرية للحق لصاحبه في قضايا المسائل المدنية. ويرأس جميع المحاكم قضاة مؤهّلون، وهؤلاء القضاة يفصلون في كل المسائل القانونيّة. وفي كثير من القضايا، يحكم القضاة بصحة أو زيف إدعاءات كلًّ من طرفي الخصومة. ويُقصد بكلمة محكمة، الإشارة إلى قاضٍ فرد، أو إلى قضاة في هيئة قضائية. وقد يُقْصَدُ منها أيضًا، المكان الذي تُعقَدُ فيه الجلسات للنظر في المنازعات وإصدار الأحكام. ولضمان عدالة المحاكمة، تكون الجلسة عادةً علنية، ما لم تتصل بمسائل الأحداث، أو أسرار الدولة. وتُؤثّر أكثر الأحكام على الخصوم وحدهم في الدعوى، ولكن هناك أحكامًا أخرى تتناول مسائل عامة أكثر شمولاً، مثل حريّة الصحافة، والتّمييز العنصري، وضمانات المُتّهمين. وتُعد المحاكم أداة فعالة لأغراض التغيير الاجتماعي والسّياسي.

أجهزة القوات النظامية:

للدلالة التعبيرية لمكـونات الهيئات والأجسام الإدارية في أي دولة ما، لإمـتلاكها قـوة الدولة المادية

والمعنوية، بإحتكاروإستخدام قوة السلاح الناري، وإستخدام سلطة الدولة إنابة عنها، بهدف الحفاظ على النظام وضمان الأمن العام للدولة الداخلي والخارجي. وعبارة القوات النظامية Uniformed forces دلالة تعبيرية لهيئات تضم أشخاصًا يعملون في الدولة، ويرتدي أفراد كل هيئة زيًا موحدًا مميزاً مختلف لونه من هيئة لأخرى. وعادة ما تشمل القوى النظامية القوات المسلحة، الشرطة، والمخابرات العامة السرية في وزارة الدفاع لدواعي الأمن الخارجي أو في وزارة الداخلية لدواعي الأمن الداخلي. وضمن القاعدة (4) من القانون الدولي الإنساني العرفي، جاء تعريف القوات المسلحة، بأن القوات المسلّحة للدولة تتكون من كل الوحدات المنظمة والأفراد الخاضعين لقيادة مسئولة عن سلوك مرؤوسيها، ويخضعون لنظام تأديبي داخلي، يلزمهم بالإمتثال للقانون. والإمتثال للقانون لوجود تسلسل قيادي واضح المعالم، ولما لهذه القوة المسلحة من منظومة قوانين عسكرية خاصة بها، لفرض الإنضباط، والخضوع للقانون، إضافة إلى ما تتمتع به من قيادة وتدريب جيدين.

3. القضاء والمحاكم العسكرية وعلاقته بقضاء ومحاكم القوات النظامية الأخرى:

لطبيعة التكوين والإنشاء والتنظيم العسكري وشبه العسكري لأجهزة القوات النظامية الأخرى من قوات الشرطة وأجهزة الأمن(جهاز الأمن العام، جهاز أمن الدولة، جهاز الأمن القومي، جهاز أمن السودان) - بحسبما سيرد في موضعه من هذه الورقة عند تناول التكوين والنشأة والتنظيم الإداري والتشريعي والهيكلة للمنظومات العسكرية وتوابعها من الأجهزة العسكرية وشبه العسكرية لمسميات لها، إشارة لها في هيكل جسم الدولة - قضاء ومحاكم الشرطة وأجهزة الأمن(بمسمياته المختلفة)، إرتبط، بمنظومات القضاء والمحاكم العسكرية وبدرجات متفاوته من دولة لأخرى. وإطلاق عبارة القضاء العسكرى Judicial Martial كمصطلح، تُشير إلى مجموعة القوانين والإجراءات التي تحكم أفراد القوات المسلحة. وتحتفظ العديد من الدول بمجموعات منفصلة ومستقلة من القوانين التي تحكم سلوك أفراد قواتها المسلحة. وتستخدم بعض الدول أجهزة قضائية خاصة(نظام قضائي)، وترتيبات مختلفة، لإنفاذ تلك القوانين، بينما تستخدم دولاً أخرى أنظمة قضائية مدنية. وتشمل المسائل القانونية الخاصة بالقضاء العسكري، المحافظة على النظام والانضباط ومشروعية الأوامر والسلوك المناسب لأفراد القوات المسلحة. وتتيح بعض الدول لأنظمة القضاء العسكري التعامل مع الجرائم المدنية التي يرتكبها أفراد القوات المسلحة في بعض الظروف المتعلقة بالحرب، وفي حالات فرض وإعلان الطوارئ. ويختلف القضاء العسكري عن فرض سلطة عسكرية على المدنيين وأفراد الشرطة كبديل عن السلطة المدنية. وهذه الحالة بشكل عام تُعرف باسم الأحكام العرفية، ويتم إعلانها غالباً في أوقات الطوارئ والحروب والاضطرابات المدنية. وتضع معظم الدول قيودًا على الأوقات والكيفية التي يتم فيها إعلان الأحكام العرفية وإنفاذها. وأما المحكمة العسكرية court-martial، هو قضاء مخوّل بتحديد إذناب عضو في القوات المسلحة حسب القانون العسكري، وإذا ما ثبت أن المتهم مذنب، تحدد تلك المحكمة العقاب المناسب. وتحافظ معظم الجيوش على نظام المحاكم العسكرية للنظر في القضايا التي قد يحدث فيها خرق للانضباط العسكري. وبعض البلدان، ليس بها محاكم عسكرية في وقت السلم؛ كما هو الحال في فرنسا وألمانيا، حيث تستخدم المحاكم المدنية كبديل للمحاكم العسكرية. وبالإضافة إلى ذلك، قد تستخدم المحاكم العسكرية للنظر في القضايا الخاصة بالأسرى وجرائم الحرب. وحسبما ورد في إتفاقية جنيڤ الأربعة والبروتوكولات المصاحبة لها، فإن أسرى الحرب الذين يتم محاكمتهم على جرائم حرب، يخضعون لنفس الاجراءات التي تخضع لها قواتهم العسكرية. ومن التجارب العملية في الهند، يوجد أربع أنواع من المحاكم العسكرية. فهناك المحكمة العسكرية العامة General court martial الـ GCM، والمحكمة العسكرية في المقاطعات District court martial الـ DCM، ومحكمة عسكرية عامة عاجلةSoon general martial   الـ SGCM والمحكمة العسكرية العاجلة Soon court martial الـ SCM. وحسب قانون الجيش في الهند، المحاكم العسكرية، يمكنها النظر في جميع أنواع القضايا التي يرتكبها الأفراد العسكريين، فيما عدا جرائم  قتل واغتصاب المدنيين، والتي تنظر فيها المحاكم المدنية.(3)

وبوجه عام، يلاحظ في بعض الدول المتحضرة المتمدينة المتمقرطة في أوروبا والولايات المتحدة

الأمريكية، وأغلب دول العالم، أنها تحاكم العسكريين من أفراد الجيش أمام محاكم مدنية، ناهيك من محاكمة مدنيين وأفراد الشرطة أمام المحاكم العسكرية. وبرأي غالبية المهتمين بشئون القانون والسياسة، المحاكمات العسكرية لا توفر الضمان الكافي للمتهمين. ولا تكفل حصانة للقاضي، وافتقاد المتهمين العدالة أمام المحاكم العسكرية بالقدر الكافي، كما أمام القاضي الطبيعي المدني، فصـلاً في الخصـومات والمنازعات، دون رقيبٍ أو حسيب عليه، إلا رقابة سلطان القانون، وضمير 

فؤاد القاضي المدني. وحجتهم في ذلك، تبعية القضاء العسكري لوزارة الدفاع في هيكل السلطة التنفيذية، وعدم تبعيته لهياكل السلطة القضائية. وأنه لا يجوز عقد المحاكمات العسكرية للمحاكمة في مواد القانون العام الجنائي والمدني والإداري، ويجب التفريق بين شرعية المحكمة وعدالتها، لأن المحاكم العسكرية محاكم تأديب جزائي لأفراد القوات المسلحة، ويجب أن تكون المحاكمة في إطار مواد القانون العسكري، ولا يتعداه للقانون العام، وأن لا تتعدى المحاكمات فئات الأشخاص الخاضعين للقانون العسكري من العسكريين فقط دون سواهم. وبرأي عام جامع، أي محاكمة عسكرية للمدنيين وأفراد الشرطة، تشكِّل إنتهاكًاً صريحاً لحقوق الإنسان ولكافة المعايير الدولية الخاصة بمقتضيات المحاكمة العادلة. وإذا دعت الضرورة والحاجة محاكمة المدنيين وأفراد الشرطة، فلتكن المحاكمة أمام محاكم مدنية، نظراً للطبيعة المدنية لأجهزة قوات الشرطة، نظراً لطبيعة تشغيلها المدني لإنفاذ القانون، ولإخضاعها لقانون خاص بها يختلف عن القانون العسكري.

ومثارات الجدل الفكري والفقهي والدستوري عن القضاء العسكري والمحاكم العسكرية، يعود إلى   نشأة القضاء العسكري، فقد بدأ كمحاكم تأديب إداري للعساكر الجنود والضباط، إلا أنه تطور حتى وصل إلى قضاء خاص. ومن أدبيات الكتابات والآراء الفقهية عن طبيعة ومميزات القضاء العسكري ومحاكم القضاء العسكري، نورد المقابلات الآتية:(4)

1. المحاكم العسكرية هو سلاح الأنظمة الإستبدادية البوليسية، لما تتميز به المحاكمات العسكرية بمحدودية ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة فيها، مقارنة بالمحاكات المدنية(محاكم القضاء الطبيعي) التابعة للسلطة القضائية المدنية للدولة.

2. المحاكم العسكرية توصف بأنها محاكم إستثائية، للتصدي ولدرء حالات الحرب والعدوان على السيادة الوطنية، وللتعامل مع حالات الطوارئ والأزمات المهددة لأمن وإستقرار المجتمع المدني والدولة. والمحكمة العسكرية تجريها محكمة أو هيئة قضائية، مؤلفة من عسكريين أو من مدنيين، للنظر في جرائم أو مخالفات إرتكبها عسكريون أو عناصر مدنية تعمل في المؤسسة العسكرية.

وبشكل عام فروقات ومميزات المحاكم العسكرية، أنها محاكم ذات طبيعة إستثنائية ومؤقتة في أغلب الأحيان، وتقام بغية البتّ في حالة خاصة بعينها، شُكلت المحكمة من أجلها. ولذلك المحاكم العسكرية، توصف بأنها محاكم خارج النظام القضائي العادي الطبيعي المدني. وهنا يجب التفريق بين المحاكم العسكرية وبين محاكم هيئات القضاء العسكري، لما يتمتع كل منها بخصائص فردية، 

ومميزات خاصة، نوردها في الآتي:(5)

1. محاكم الهيئات العسكرية، تتصف بأنها محاكم دائمة التكوين، وتتبع لهيئة القضاء العسكري. وفي البلدان ذات التقاليد المدنية العريقة المتقدمة والديمقراطية، محاكم الهيئات العسكري في أوقات السلم تتبع للقضاء المدني العادي(القضاء الطبيعي)، وتُندب للبت في القضايا المتعلقة بأفراد الجيش والموظفين الإداريين العاملين فيه.

2. تتميز المحكمة العسكرية عن محاكم هيئات القضاء العسكري بطابعها الإستثنائي، وغالباً ما تشكل في أوقات الحرب، بينما محاكم هيئات القضاء العسكري تتسم بإستمرارايتها، لكونها تضطلع بالبت في القضايا الجنائية المرتكبة في أوقات السلم والمتعلقة بالعسكريين والإداريين العاملين بالمؤسسة العسكرية. وقد تشمل هذه القضايا مدنيين ضالعين في جرائم كان الضحية فيها عسكرياً

3. تتميز المحاكمات العسكرية، بمحدودية ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة، مقارنة بالمحاكمات المدنية ومحاكم هيئات القضاء العسكري. وذلك نظراً لحساسية كل ما يتصل بالمؤسسة العسكرية،

ولأهمية الإنضباط والسيطرة والقيادة داخلها، ولصرامة القوانين العسكرية. لأن المحاكم العسكرية،

 محاكم تأديب إداري، لضبط السلوك المهني والتقاليد والأعراف العسكرية المستقرة.

4. الإستئناف أمام المحاكم العسكرية، أقل فيها، من الإستئناف أمام محاكم هيئات القضاء العسكري.

5. يفرق القضاء العسكري بين أوقات السلم وأوقات الحرب. ففي أوقات السلم، القضايا المتصلة بعسكريين(جناة كانوا أو ضحايا)، تبت فيها هيئات قضائية مدنية تابعة للقضاء العادي المدني في السلطة القضائية، لكنها مخصصة للبت في هذه القضايا. أما في أوقات الحرب، هيئات قضائية عسكرية مشكلة من ضباط عسكريين، هي التي  تتولى مهمة البت في القضايا المتصلة بالعسكريين (جناة كانوا أو ضحايا).

ولذلك، حين يخضع المدنيون وأفراد الشرطة لمحاكم القضاء العسكري، يطلق عليه القضاء العرفي. وعادة ما ترتبط  هذه الحالة بوجود إحتلال عسكري أجنبي، أو غياب أي وجود للإدارة المدنية. ولمثل هذه الحالات تحال المسئولية عن السكان المدنيين إلى محاكم القضاء العسكري. وغالباً قوة الإحتلال الأجنبي أو أنظمة الحكم الوطنية الإستبداية، تلجأ إلى إخضاع السكان لمحاكم القضاء العسكري، ردعاً لهم عن أي تحرك سياسي مناوئ ومعارض لها. فقد أستخدمت الأنظمة الإستعمارية والأنظمة الإستبدادية محاكم القضاء العسكري لملاحقة وقمع التنظيمات السياسية المعارضة لها (خاصة التنظيمات السرية) وحركات التمرد ذات الطبيعة العسكرية. وعملياً في الحقبة الإستعمارية، الإدارات الإستعمارية مارست إخضاع المدنيين للمحاكم العسكرية على نطاق واسع لقمع الإنتفاضات الشعبية في تلك المستعمرات. ومثال ذلك ما جرى في إوروبا خلال الحروبات النازية خلال الحرب العالمية الثانية، ومن النماذج الشهيرة للمحاكم العسكرية بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية 1945م، قامت إثنتان من أشهر المحاكم العسكرية في التاريخ الحديث المعاصر، و هما، المحكمة الدولية للشرق الأقصى، ومحكمة نوربيرغ في ألمانيا. وقيامهما تمّ بناء على إعلان بوتسدام الذي وقعه الحلفاء، لتحقيق فكرة معاقبة مجرمي الحرب النازيين والفاشيين منذ 1942م. إلا أن هذه المسعى(معاقبة مجرمي الحرب النازيين والفاشيين) لم يتحقق إلا بعد وضع الحرب أوزارها، ووقع الإعلان في 08/08/1945م وأُطلق عليه إتفاق لندن، وهو الذي قضى بإنشاء المحكمة العسكرية الدولية. وعقدت المحكمة العسكرية الدولية جلساتها بمدينة نورنبيرغ الألمانية التي أخذت منها إسمها، فاشتهرت بمحكمة نورنبيرغ، وتراوحت الملفات المعروضة على المحكمة بين جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية مثل: جرائم الإبادة والتعذيب والترحيل القسري والإستغلال الذي تعرض له مئات الآلاف، ممن سُخروا في خدمة آلة الصناعة الحربية الألمانية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. وأما على الجانب الآسيوي من الحرب العالمية الثانية، فقد شُكلت محكمة الشرق الأقصى رسمياً بتاريخ 19/01/1946م بأمر من قائد القوات الأمريكية في آسيا والمحيط الهادي الجنرال دوغلاس ماكارثر(1880م - 1964م)، وخُصصت تلك المحاكم لمحاكمة مجرمي الحرب اليابانيين، وتألفت المحكمة من عدد 11 قاضي يمثلون دول الحلفاء المنتصرة التي شاركت في حرب المحيط الهادي. والمحكمة بتت بالنظر والحكم بشكل حصري في جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية والسلام التي إرتكبها القادة اليابانيون بين 1928م - 1948م، وأصدرت سبعة أحكام بالإعدام، وعدد 16 حكم بالسجن المؤبد. وتقدم المحكومين بإستئناف خلال ذات شهر يناير 1946م، ورفض الجنرال ماكارثر طلب إستئناف المدانين بالإعدام، وأمر بتنفيذ الحكم فيهم، وقد تمّ ذلك، ولكن بعد طلب إستعطاف(إسترحام)، تقدم به المحكومين إلى المحكمة العليا الأميركية.(6)

وبوجه عام، الحوارات الفكرية حول القضاء العسكري والمحاكم العسكرية في بعض من دول العالم الثالث النامية ودون النامية والإقليمي، الآراء تدور حـول القضاء العسكري وإعـادة تعريف العلاقة بين المدني والعسكري، بطرح سؤال إختصاص المحكمة العسكرية في محاكمة أفراد الجيش والشرطة والمدنيين في جرائم القانون العام الجنائي والمدني والإداري؟ والارتقاء بالقضاء العسكري بفصله عن نموذج المحكمة الاستثنائية، طبقاً لتعريف محكمة النقض المصرية في تعريفها القضاء العسكري(بأن هيئة القضاء العسكري المصرية هي إحدى هيئات القوات المسلحة المصرية، وهي الهيئة العسكرية المختصة بالمحاكم العسكرية ذات الاختصاص الاستثنائي والتي يحكمها قانون الأحكام العسكرية المصري رقم 25 لسنة 1966 وتعديلاته). ووفقاً للتعديلات التي تمت في دولة المغرب في إختصاص المحكمة العسكرية، لتأكيدها على أن المحكمة العسكرية لم تعد مختصة بالنظر في الأفعال المنسوبة للمدنيين، بمن فيهم المدنيين العاملين في القوات المسلحة الملكية المغربية، و في حالة مساهمة مدنيين مع عسكريين أو مشاركتهم لهم في جريمة من اختصاص المحكمة العسكرية، فالقضية في هذه الحالة تحفظ، وتتم إحالة المدنيين على المحاكم العادية، وهي اختصاصات قامت بإعمالها عدة تجارب قانونية مقارنة. ومنها القانون الجنائي العسكري الألماني بتاريخ 24 مايو 1974م، والذي تم تعديله بقانون 26 يناير 1998م. والقانون التنظيمي الإسباني 4/1987م بتاريخ 15 يوليو 1987م المتعلق باختصاصات وتنظيم القضاء العسكري. والقانون رقم 180 بتاريخ 7 مايو 1981م حول القضاء العسكري، والقانون رقم 561 بتاريخ 30 ديسمبر 1988م لمجلس القضاء العسكري الإيطالي. والقانون بتاريخ 10 أبريل 2003م المتعلق بإلغاء المحاكم العسكرية في وقت السلم والإبقاء عليها في وقت الحرب (بلجيكا). وقانون إنضباط القوات المسلحة البريطانية المصادق عليه سنة 2000م. وقانون الدفاع الوطني الكندي المصادق عليه سنة 1950م. وقانون القضاء العسكري في جمهورية اليونان.(7) ومن الحوارات المحتدمة بشأن القضاء العسكري والمحاكم العسكرية في محاكمة العسكريين وأفراد الشرطة والمدنيين. وكذلك حوارات ومناقشات فقهاء القانون الدستوري والإداري في مصر حول تطور القضاء العسكري. لنشأته في مصر بموجب قانون الأحكام العسكرية الصادر عام 1893م، وكانت أغلب الجرائم الواردة فيه ذات طابع تأديبي، وحيث ظلّ القانون ساري المفعول حتى صدور القانون رقم 25 لسنة 1966م المعمول به حالياً. والجديد في أمر القضاء العسكري والمحاكم العسكرية، إثارة الجدل حول دستورية القضاء العسكري ووجود المحاكم العسكرية، ودستورية إحالة قضايا بعينها إلى المحاكم العسكرية. فاعتبر البعض أنه لا يحق للمشرّع إنشاء محاكم خاصة أو إستثنائية إعتمادًا على السلطة المخولة له، لترتيب وتنظيم جهات القضاء، وأنه لا يمكنه حجب ولاية القضاء العادي عن بعض القضايا وإسنادها إلى هيئة أو جهة أخرى، إذا لم ينص الدستورعلى ذلك. كما أشار هذا الفريق في الرأي إلى إخلال هذا الأمر بمبدأ المساواة بين المتقاضين. وذهب جانب آخر من الفقه المصري بالرأي، أن القضاء العسكري يعتبر دستورياً، ما دام نص الدستور على وجوده. ولعل هذين الرأيين يتفقان مع أسباب تطور المحاكم العسكرية في التشريع الدستوري المصري. وقد وضع المشرع الدستوري نصب عينيه تقنين وجود هذه المحاكم وحماية وجودها. فإذا تم ذلك، مهّد الدستور لضمان اختصاص هذه المحاكم بالنظر في قضايا قد تخرج عن اختصاصها في الأحوال الطبيعية مثل محاكمة المدنيين. ويلاحظ أن الدساتير المصرية المتعاقبة(حتى دستور 1964م) استخدمت لفظ " محاكم عسكرية " عند الإشارة لهذه المحاكم. بينما نص دستور 1971م لأول مرة على لفظ " القضاء العسكري " رافعاً بذك مستوى هذه المحاكم من مجرد محاكم تأديبية، إلى محاكم ذات اختصاص قضائي، وسامحًا بإنشاء نظام قضائي متكامل خاص للعسكريين. كما سمح القانون المنظم لاختصاص المحاكم العسكرية بمحاكمة المدنيين أمام هذه المحاكم في حالات معينة، في حال صدور قرار من رئيس الجمهورية بمحاكمتهم أمامها. ولارتفاع عدد المدنيين المحاكمين أمام القضاء العسكري، أدى ذلك إلى فتح المجال العام وأسعاً في مصر، إلى مطالبة الشارع بوقف هذه المحاكمات، وحظرها بموجب الدستور. ورغم ذلك وفي خطوة متقدمة جداً صنف دستور 2012م المحاكم العسكرية ضمن الجهات القضائية، وسار دستور 2013م الحالي على الدرب نفسه. وبذلك إنعكس التطور الدستوري على التشريعات المنظمة للقضاء العسكري في مصر. فحتى قانون " الأحكام العسكرية "، أصبح يسمى قانون " القضاء العسكري" فاتحاً الباب لمزيد من الاختصاصات والصلاحيات للقضاء العسكري. كما أن المشرع أدخل تعديلات على تنظيم المحاكم ودرجات التقاضي، بهدف إنشاء نظام قضائي يقارب القضاء المدني ويزيح عن القضاء العسكري شبهة مخالفة مواد دستورية خاصة تلك المتعلقة بالمحاكمة العادلة والمنصفة. وهكذا تطوّرت نظرة الفقه المصري للقضاء العسكري، من إعتباره قضاءاً خاصاً تأديبي فقط، وإستمرار الجدل حول دستورية وجوده، إلى الجدل حول إعتباره قضاء إستثنائياً في ما يخص محاكمته للمدنيين، والمطالبة بوقف هذه المحاكمات باعتبارها غير دستورية، وصولا إلى المطالبة بعدم تضمنين المحاكمات العسكرية للمدنيين في الدستور. كما تطورت نظرة القضاء الدستوري والإداري إلى القضاء العسكري مع تطور نظرة المشرع الدستوري له مع تطور الأحداث والأوضاع السياسية المصرية؛ وبالتالي التشريعات المنظمة له. ومن القراءة للجدل الدائر حول القضاء العسكري والمحاكم العسكرية من جانب الفقه أو القضاء أو الشارع المصرى، يلاحظ أثر المناقشات والحوارات لدرجة بلوغها دسترة المحاكم العسكرية، وأثر المباشر على وضعية المحاكم العسكرية في المنظومة القضائية المصرية. لأنه عندما يقر أو ينشئ المشرع الدستوري قاعدة معينة في الدستور، فإنه بذلك يقرّ لها بأهمية من نوع خاص، حيث يلزم المشرع بإطار معين عند تنظيمه لها. وبالتالي، أصبح القضاء العسكري في مصر " قائماً وثابتاً بنص الدستور، ولا يمكن أن يمس به، إلا عن طريق المساس بالدستور ذاته". كما أن دسترة المحاكم العسكرية في مصر بإقرار صفتها القضائية، جعل منها نظاماً قضائياً متكاملاً، وساهم في توسيع اختصاصات هذه المحاكم، وتمسكها بما حققته من مكاسب. وقد وصل الأمر إلى تضمين الدستور حكماً بأن القضاء العسكري جهة قضائية مستقلة ومساواة قضاته بأعضاء السلطة القضائية، وهو يمثل درجة متقدمة جداً في تنظيم قضاء خاص كالقضاء العسكري داخل النظام القضائي المصري. وعلة ذلك(برأي المهتمين المتخصصين) من المناقشات التي دارات داخل اللجنة التأسيسية لدستور 2012م، ولجنة الخمسين لإعداد دستور 2013م، غلبة وتمسك أعضاء القوات المسلحة بوجود القضاء العسكري والمحاكم العسكرية، وباختصاصها بنظر قضايا بعينها، باعتبارها تمس أمن الدولة، ولا يجوز للقضاء العادي أن ينظر إليها، بسبب حساسيتها وسريتها، وخاصة قضايا مكافحة الإرهاب ومهددات الأمن القومي المصري. وكما عكست هذه المناقشات والحوارات، ما يمكن أن نطلق عليه تقليلاً من شأن القضاء المدني. فقد اعتبر البعض أن حذف نص جواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، يرسل رسالة إيجابية للإرهابيين والمخربين والمناوئين للنظام العام السائد في مصر، لخصوصية الوضع الجيوسياسي للدولة المصرية في البحر الأبيض المتوسط مع جنوب قارة إوربا وقارتي أفريقيا وأسيا، والنظر للدولة المصرية، كدولة مواجهة مع إسرائيل، لإعتبارإسرائيل دولة إحتلال وإغتصاب لأراضي فلسطين؛ وهو ما يدلل على إعتبار البعض، أن القضاء العسكري هو أفضل وسيلة للمحاكمة في حالات بعينها، بسبب سرعة الفصل في القضايا، وعدم الرهبة في إصدار أحكام شديدة، ولو على حساب العدالة ومعايير المحاكمة العادلة المنصفة. وهو ما يدلل على قبول ورضاء فئة من الشعب لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، ولقبول دسترة هذا الوضع، تشريعاً له في الدستور، وتقنينه في القانون، بل واعتباره هو الأمر الأنسب في الوقت الحالي لمقتضيات دواعي الأمن القومي المصري.(8) 

4. قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية في القانون الدولي:

أهمية الموضوع في القانون الدولي، يثير مسألة مكانة قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية في القانون الدولي. ولأغراض موضوع الورقة، نشير للقضاء العسكري والمحاكم العسكرية، لأثر القضاء العسكري على النظام القضائي في الدولة، ولإخضاع أفراد الشرطة للقانون والقضاء العسكري في بعض الدول. ولتجاوز القضاء العسكري والمحاكم العسكرية المجال القضائي، لتصل إلى صميم  إحترام سيادة القانون. كما أن المحاكم العسكرية، كثيراً ما تبعد عناصر القوات المسلحة والمؤسسات العسكرية عن سيادة القانون ومراقبة المجتمع. ولعل مقولة الرئيس الفرنسي جورج كليمنصو:(القضاء العسكري، يمثل بالنسبة للعدالة، ما تمثله الموسيقى العسكرية بالنسبة للموسيقى)، بلا شك، مقولة تعبيرية لذاتها، تعكس الجدل واللغط الهائل الذي تثيره المحاكم العسكرية، بأنها محاكم لا تتوافر فيها معايير المحاكمة العادلة المنصفة، وتتعارض مع مبادئ القانون الدولي. (9)


إن موضوع المحاكم العسكرية واسع ومعقد، لكنه مما لا شك فيه، موضوع أساسي لإقامة العدل، وبوجه خاص العدالة الجنائية، لإعتبار موضوع القضاء العسكري وانتهاكات حقوق الإنسان، يدخل ضمن المجال الجنائي. لأنه يُنظر إلى أفراد الجيش والشرطة في إطار أجهزة الدولة لإنفاذ القانون، لتحقيق مهمة واجب الدولة في مجال خدمة الحماية والأمن. والقانون الدولي تحديداً تناول القضاء العسكري والمحاكم العسكرية، ولم يتطرق لقضاء الشرطة ومحاكم الشرطة. إنما أشار القانون الدولي لحقوق الإنسان إلى إمكانية محاكمة أفراد الشرطة أمام المحاكم العسكرية، لإرتكابهم انتهاكات وجرائم مخالفة للقانون وتمس حقوق الإنسان، لإعتبار محاكمة أفراد الجيش والشرطة، مبادئ ومعايير دولية لحقوق الإنسان ناجمة عن الإلتزامات الدولية للدولة. وبالتالي، يُنظر إلى القضاء العسكري في مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني.(10) فإذا تمّ ضمان سير سليم للعدالة أمام القضاء العسكري، واحترام كامل للحق في محاكمة عادلة، وإذا أمكن للقضاء العسكري القضاء على حالات الإفلات من العقاب. بلا شك وفقاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان، يمكن النظر بشكل مناسب وعادل في القضاء العسكري والمحاكم العسكرية. وباستثناء الإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري والإتفاقية البين- الأمريكية بشأن الإختفاء القسري، لا توجد قواعد محددة في إطار القانون الدولي(على أساس معاهدة أو ذات طابع إعلاني)، مرتبطة بالجرائم العسكرية والقضاء العسكري أو العدالة العسكرية. لكن مجالات أخرى من القانون الدولي، تتضمن أحكاماً بشأن القضاء العسكري، معظمها متصل بالجوانب الدولية، والتعاون القضائي أو العسكري أو التسليم لمتهم أو مدان في جريمة عسكرية الطابع(إذا كان التسليم مندرج تحت حالات تسليم المجرمين، وكانت الجريمة من الجريمة العسكرية الخالصة (الجرائم العسكرية بالمعنى الحرفي: وهي الجرائم التي تتصل بطبيعتها وبشكل حصري بمصالح ذات طابع عسكري يحميها القانون، مثل الهروب من الخدمة أو العصيان أو التخلي عن الموقع أو مركز القيادة)، أو من الجرائم العسكرية الأساسية (الجرائم العسكرية بالمعنى الواسع: وهي الجرائم التي تنتهك حقوق أو مصالح قانونية عادية وعسكرية معاً، لكن تعتبر الحقوق القانونية أو المصالح العسكرية هي الغالبة فيها وتمس جوهر الأمن الوطني للدولة)، أو جرائم في إطار القانون العسكري ليست جرائم بموجب القانون الجنائي العادي(الجرائم العادية “ الشبيهة ” بالعسكرية: وهي الأفعال التي تُشكِّل جرائم بموجب القانون الجنائي “العادي”، وتعامل باعتبارها جرائم عسكرية بسبب ظروف إرتكاﺑﻬا(كالأفعال المتصلة بالعمل في القوات المسلحة)، مثل سرقة الممتلكات العسكرية من قِبَل المدنيين العاملين في القوات المسلحة). ففي الإتفاقيات الدولية الجريمة العسكرية القابلة للتسليم، يتم النص عليها ضمن لائحة الجرائم التي تستوجب تسليم المجرمين.(11)

إن نقطة البداية في معالجة محاكمة العسكريين من أفراد الجيش أو أفراد الشرطة أمام المحاكم العسكرية أو محاكم الشرطة، لارتكابهم جرائم وانتهاكات مخالفة للقانون، يجب النظر إليه ضمن المبادئ والمعايير الدولية الناجمة عن الإلتزامات الدولية للدولة. وهذا يعني بالضروة تحليل القضاء العسكري وغيرها من الأنظمة القضائية الخاصة، بالنظر لتلك الأنظمة في إطار التزامات الدولة فيما يتعلق بإقامة العدل. وتبعاً لشروحات كبار فقهاء القانون الدولي، معنى إقامة العدل، مفهوم مرتبط إرتباط وثيق بإستقلال القضاة والمحامين. فقد أشار إلى ذلك بارام كوماراسوامي(المقرر الخاص للأمم المتحدة)، فقد أوضح معني إستقلال ونزاهة القضاء، موضحاً، بأنها عالمية بطبيعتها، وتضرب بجذورها في كل من القانون الطبيعي والوضعي. فعلى الصعيد الدولي، توجد مصادر هذا القانون(إستقلال ونزاهة القضاء) في التعهدات التعاقدية والإلتزامات العرفية والمبادئ العامة للقانون. إن مفاهيم إستقلال ونزاهة القضاء، مبادئ قانونية عامة تعترف بها الدول المتحضرة، ومنصوص عليها في الماد 38/(1/ج) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. وخلص المقرر الخاص إلى استنتاج مفاده، أن مفهوم العدالة المنصوص عليه في الميثاق وفي عمل الأمم المتحدة. ويشمل إحترام حقوق الإنسان، ويشترط إستقلال القضاء ونزاهته كوسيلة لضمان إحترام حقوق الإنسان. ويشير الأستاذ سنغفي(وهو خبير أممي أجرى عدة دراسات حول إستقلال القضاء ونزاهته)، فقد إنتهي برأي له مفاده:(التحليل التاريخي والمعاصر للوظائف القضائية وأجهزة العدالة، يبين الإعتراف العالمي بالدور المتميز للسلطة القضائية. وتعتبر مبادئ الحياد والإستقلال السمة المميزة لسبب وجود ومشروعية الوظيفة القضائية في كل دولة. وإن مفاهيم حياد وإستقلال القضاء، تفترض خاصيات فردية ومؤسسية. وهذه الأشياء، ليست مجرد أفكار غامضة، ولكنها مفاهيم غاية في الدقة في القانون المحلي والدولي. ويكفي أن يؤدي عدم وجودها إلى الحرمان من العدالة، وجعل مصداقية العملية القضائية ككل موضع شك. ويجب التأكيد هنا على أن نزاهة واستقلال القضاء حق من حقوق المتقاضين أكثر منه إمتياز ممنوح للقضاء لخدمة مصالحه).(12)

كما حددت الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، كيفية إقامة العدل وشروطها. فمفاهيم مثل المحكمة المستقلة والمحايدة، والإجراءات القانونية الواجبة، ووجود ضمانات قضائية، كلها عناصر أساسية. كما أشارت الجمعية العامة للأمم المتحدة كذلك، إلى أن وجود هيئة قضائية مستقلة ونزيهة، واستقلال المهنة القانونية، هي الشروط الأساسية اللازمة، لحماية حقوق الإنسان، وضمان عدم التمييز في مجال إقامة العدل. وفي هذا الصدد على الصعيد الدولي، يلزم تسليط الضوء على المواد 10،11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م، والمواد 2، 14، 26 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966م، والمادة 5/(أ) من الإتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييزالعنصري 01/12/1965م وبدء نفاذها 4 يناير 1969م، والمادة 37 من اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989م، وهي الجملة تتحدث عن المعايير الدولية المتعلقة بالمحاكمة العادلة. كما يلزم الإشارة أيضا إلى عدة صكوك إعلانية: كالمبادئ الأساسية بشأن إستقلال السلطة القضائية، والمبادئ الأساسية بشأن دور المحامين، والمبادئ التوجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة. أما على الصعيد الإقليمي، فيمكن الإشارة إلى المادة 6 من الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والمواد 47، 48 من ميثاق الحقوق الأساسية للإتحاد الأوروبي، والمواد 18، 26 من الإعلان الأمريكي لحقوق وواجبات الإنسان، والمواد 8، 25 من الإتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، والمواد7، 26 من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.(13)

ولكيما تسير العدالة بشكل صـحيح، فإن وجـود سلطة قضائية مستقلة عن غيرها من فروع السلطة

العامة التنفيذية والتشريعية، شرط لا غنى عنه. وقد أكد المقرر الخاص المعني بإستقلال القضاة والمحامين إلى أن مبدأ الفصل بين السلطات، هو الأساس الذي تنبني عليه متطلبات استقلال القضاء ونزاهته. وإن فهم واحترام مبدأ الفصل بين السلطات، شرط لا بد منه لقيام دولة ديمقراطية. واعتبرت لجنة حقوق الإنسان في تعليقها العام رقم 13، أن مفهوم القضاء المختص والمحايد والمستقل، يثير مسائل عديدة حول الإستقلال الفعلي للسلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية. وإن وجود سلطة قضائية مستقلة، بعيدة عن أي تدخل للسلطات العامة الأخرى، أمر جوهري لسيادة القانون. فقد شددت لجنة حقوق الإنسان، في مناسبات عديدة، على ضرورة قيام جميع الدول الأطراف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بتأكيد ضمان فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية على نحو فعال، وأن تكون القوات المسلحة تابعة للسلطات المدنية، وأن توجد هيئة قضائية مستقلة ونزيهة، وأن يسود القانون ومبدأ المشروعية. كما أشارت لجنة حقوق الإنسان في تعليقها العام رقم 29 إلى أن مبدأ المشروعية وسيادة القانون، متأصل في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وأوصت لجنة حقوق الإنسان، في مناسبات عديدة، بأن تعتمد الدول تشريعات وتدابير لضمان وجود تمييز واضح بين السلطتين التنفيذية والقضائية، بحيث لا يمكن للأولى أن تتدخل في الشئون التي يكون النظام القانوني مسئولاً عنها.(14)

وفي ذات سياق حوارات مبدأ إقامة العدل(كإلتزام دولي للدول)، حوارات كبار فقهاء القانون الدولي

لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، والتحليلات والدراسات الفقهية وأعمال المحاكم الدولية والإقليمية، تشير إلى أن القضاء العسكري غالباً ما يستخدم كوسيلة للإفلات من مراقبة السلطات المدنية، ويعمل على تثبيت الجيش كسلطة داخل المجتمع، وكذلك كوسيلة يمكن أن تمارس السلطات العسكرية من خلالها هيمنتها على المدنيين. وأكدت لجنة حقوق الإنسان مراراً، أنه يجب على الدول، إتخاذ خطوات لضمان خضوع القوات العسكرية للسلطة المدنية(القضاء المدني العادي الطبيعي). ومن جانبها، شددت الجمعية العامة لمنظمة الدول الأمريكية على أن نظام الديمقراطية التمثيلية الوارد في ميثاق منظمة الدول الأمريكية، والإتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، أمر أساسي لإقامة مجتمع سياسي مدني، يمكن في إطاره تحقيق كل حقوق الإنسان، وأحد العناصر الأساسية لهذا النظام الفعال هو تبعية الجهاز العسكري للسلطات المدنية. وبالمثل، أشارت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى أن تعزيز وحماية وإحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، يعني أنه يتعين على الدول ضمان خضوع المؤسسة العسكرية للمساءلة أمام حكومة مدنية منتخبة ديموقراطياً. وطبقاً للمادة 16/(2) من إعلان الأمم المتحدة(كأول صك دولي حدد قواعد محاكمة منتهكي حقوق الإنسان في إطار القضاء العسكري)، تؤكد الإتفاقية، على أن يُحاكم المسئولون عن حالات الإختفاء القسري(سواء بشكل رئيسي أو ثانوي) أمام المحاكم العادية المختصة في كل دولة، وليس أمام أي محكمة خاصة أخرى، ولا سيما المحاكم العسكرية (أي إستبعاد جميع المحاكم الإستثنائية، وخاصة المحاكم العسكرية، بإستبعاد ولاية المحاكم العسكرية في المحاكمات).(15) وتفسيرات لجنة حقوق الإنسان في إستبعاد ولاية المحاكم العسكرية في المحاكمات كهيئة قضائية في السلطة التنفيذية، لأن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966م، لا يحتوي على أية أحكام محددة بشأن موضوع المحاكم العسكرية، ونظراً إلى أن المادة 2 تنص على الحق في الإنصاف القضائي الفعال. إضافة إلى أن المادة 14 تعترف بالحق في المحاكمة أمام محكمة مستقلة ومحايدة، وتقرر الحق في الضمانات القضائية التي تعتبر ضرورية لتكون المحاكمة عادلة. وتشكل هاتين المادتين الدعامة التي يقوم عليها فقه لجنة حقوق الإنسان المتعلق بمسألة شرعيةLegitimacy  ومشروعية Legality المحاكم العسكرية. وملاحظات لجنة حقوق الإنسان المتعلق باستخدام المحاكم العسكرية في محاكمة العسكريين وأفراد الشرطة المسئولين عن إنتهاكات حقوق الإنسان، مرئياتهم، أنه تطور بشكل ملحوظ على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية من بعد عام 1984م. لملاحظات اللجنة، أنه في كثير من البلدان، وجود محاكم عسكرية أو خاصة تحاكم المدنيين. وأن هذا الأمر يثير مشاكل خطيرة فيما يتعلق بإنصاف وحياد وإستقلال الهيئة القضائية، كسلطة مستقلة معنية بولاية القضاء. ويكمن السبب في إنشاء مثل هذه المحاكم غالباً في التمكن من تطبيق إجراءات إستثنائية، لا تتفق مع المعايير العادية للعدل، بأن تجرى المحاكمة في ظروف تسمح أساساً بتوافر جميع الضمانات المنصوص عليها في المادة 14. وملاحظة لجنة حقوق الإنسان، أن المحاكم العسكرية والمحاكم الخاصة، لا تقدم الضمانات الصارمة لإقامة العدل على نحو سليم وفقا لمتطلبات المادة 14 التي تعتبر ضرورية لتوفير الحماية الفعالة لحقوق الإنسان. وكانت لجنة حقوق الإنسان في تعليقها العام رقم 13 في الدورة 21 لسنة 1984م الوثيقة رقم: hr1/gen/1/rev الأمم المتحدة، قد عالجت أساساً مسألة عدم محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، فإن خلاصاتها تنطبق أيضا على محاكمة الأفراد العسكريين وأفراد الشرطة المتهمين بارتكاب جرائم وانتهاكات حقوق الإنسان أمام المحاكم العسكرية. لكن، ونتيجة لمراقبتها لكيفية تنفيذ العهد الدولي من طرف الدول الأطراف، والنظر في التقارير الدورية لهذه الدول، بدأت لجنة حقوق الإنسان تدريجياً في تغيير رأيها، وأصبحت تعتقد، أن إستخدام المحاكم العسكرية لمحاكمة العسكريين وأفراد الشرطة الذين ارتكبوا إنتهاكات حقوق الإنسان، يتعارض مع الإلتزامات التي أخذتها الدول على عاتقها بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لا سيما تلك الواردة في المواد 3، 14 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية لسنة 1966م.(16)

وفي ذات الصدد، يشير مجلس حقوق الإنسان في قراره رقم:25/4/2015م صادر بتاريخ 29/01/ 2015م، ومُرسل إلى مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وقيمة القرار المذكور، وأهميته، لأنه متعلق بواجب الإلتزامات الدولية للدول في إقامة العدل عن طريق مؤسسات القضاء، وعن طريق دور النظام القضائي المتكامل في مكافحة إنتهاكات حقوق الإنسان. ولأنه كذلك متعلق بمسألة إستقلالية ونزاهة وكفاءة القضاء، وبما في ذلك إقامة العدل عن طريق المحاكم العسكرية، والحق في محاكمة عادلة أمام المحاكم الطبيعية العادية، وضمانات المحاكم العسكرية في المحاكمة العادلة؛ ولتعلقة أيضاً بأوجه الحماية الإجرائية الأخرى؛ والاختصاص الشخصي والموضوعي للمحاكم العسكرية. ومجمل هذه الموضوعات، إنبثقت من حوارات ومشاورة الخبراء الدوليين المعنيين بالقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. وقد كان ذلك من لقاء الخبراء المنعقد في جنيف بتاريخ 24 نوفمبر 2014م، واللقاء التشاوري للخبراء ومناديب لجنة حقوق الإنسان هذا، كان قد إنعقد لمناقشة وتحليل تقارير مناديب لجنة حقوق الإنسان، لتناولهم الممارسات العملية المتعلقة بإقامة العدل عن طريق المحاكم العسكرية، وعن دور النظام القضائي المتكامل في مكافحة إنتهاكات حقوق الإنسان وإقامة العدل. لإشارة التقارير المعدة من المناديب وخلاصة آراء الخبراء وتحليلاتهم إلى ملاحظة التنوّع الواسع النطاق لنظم القضاء العسكري، مما يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، التعميم بشأن هذه المؤسسات القضائية، لتطورها كنظم قضائية، نتيجةً للوضع الفريد لكل بلد من حيث التاريخ والتقاليد والاختيارات القانونية لمأسسة نظم القضاء العسكري، ضمن منظومة القضاء في السلطة القضائية، لولاية القضاء الكامل للسلطة القضائية. فقد أشارت تقارير لجنة حقوق الإنسان ومرئيات الخبراء، أنه في عدد يُعتدُّ به من الدول، يُنظر إلى المحاكم العسكرية على أنها مؤسسات قضائية ذات مصداقية، وتخضع للرقابة القضائية المدنية. وأنه في دول أخرى، أستخدمت الحكومات نظام القضاء العسكري، لاضطهاد الشخصيات المعارضة، ولتوفير الحصانة للعسكريين الذين إرتكبوا إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وكما أضافت تقارير لجنة حقوق الإنسان وتحليلات الخبراء، أن المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، بما فيها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لا تشير بصورة محددة إلى المحاكم العسكرية. ولكن مع ذلك، فإن معاهدات حقوق الإنسان(خاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966م)، تتسم بأهمية بالغة بالنسبة إلى مسألة إقامة العدل عن طريق المحاكم العسكرية، لإعتبار إقامة العدل من الإلتزامات الدولية للدول في الجماعة والمجتمع الدولي. وقد ذكرت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في تعليقها العام رقم 32، أن العهدين الدوليين لسنة 1966م، لا يحظر إجراء محاكمات أمام المحاكم العسكرية، لإعتبار المحاكم العسكرية محاكم منشأة بقانون. إلا أن ذلك، لا يعني، إنتهاك، مبادئ ومعايير المحاكمة العادلة الواردة في العهدين الدوليين لسنة 1966م، والواردة في مبادئ حقوق الإنسان لسنة 1948. ولا يمكن بأي حال، تغيير، الضمانات المنصوص عليها في العهدين الدوليين، إستناداً إلى الطابع العسكري للمحكمة. وذلك، لإعتبارهما الأساس للقانون الدولي لحقوق الإنسان، ولإشتمالهما على معايير وأسس قواعد المحاكمة العادلة والمنصفة ومعايير القضاء النزيه.(17)

5. نشأة قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية في السودان:

بداية التنظيم الإداري والتشريعي لأجهزة القوات النظامية في السودان، وضعه الإستعمار الإنجليزي

المصري على السودان. وقد تمّ ذلك وفقاً لإتفاقية تأسيس الحكم الثنائي البريطاني بتاريخ 19/01/1899م وتعديلها بتاريخ 10/07/1899م، والإتفاقية بين الدولتين، قصد منها أن تكون بمثابة دستور منحة من المستعمر لينظم إدارة الحكم في السودان. وعلى أساسها تم تشكيل السودان السياسي المعاصر. لتعريف الإتفاقية كلمة(السودان) في المادة الأولى من الإتفاقية، بأن كلمة السودان تشمل كل المناطق الواقعة جنوب خط 22 درجة، وهي المناطق التي لم تدخلها القوات الإنجليزية المصرية، وأيضاً المناطق التي كانت تحكم قبل التمرد الأخير بواسطة حكومة الخديوي محمد علي باشا، وفقدت السيطرة عليها، ثم إستعادتها بواسطة القوات البريطانية المصرية معاً، وتشمل أي مناطق أخرى يتم إستعادتها بواسطة القوات الدولتين(بريطانيا ومصر). والمعني بعبارة التمرد الواردة في الإتفاقية، هو ثورة اللواء الأبيض عام 1924م بقيادة الملازم/ على عبداللطيف، الضابط العسكري في الجيش المصري، لأبوين سودانيين من قبيلة الدينكا. وثورة الزبير باشا رحمة والسلطان علي دينار، وإخضاع دارفور عام 1917م لحكومة التاج البريطاني المصري. وبمقتضى معاهدة 1936م المبرمة بين الحكومة البريطانية والحكومة المصرية، تمّ التأكيد على وجوب إستمرار الحكم الثنائي البريطاني في السودان، وممارسة الحاكم العام الإنجليزي لسلطاته نيابة عن الدولتين، بممارسة كافة السلطات السيادية للدولتين على كافة إقليم الأراضي السودانية، والسماح بوجود قوات مصرية بالإضافة لقوات بريطانية مماثلة في السودان.(18)

وبنشأة الدولة السودانية المعاصرة، نشأة وتطورت أجهزة القوات النظامية وتنظيمها الإداري والتشريعي. وأول تنظيم إداري وتشريعي لأجهزة القوات النظامية صدر عام 1900م، بتكوين بوليس السودان التابع للتاج الملكي لبريطانيا ومصر، بقيادة ضابط من الجيش البريطاني برتبة نقيب، وتقنين تنظيم الشرطة بقانون البوليس لسنة 1908م وتعديلاته لسنة 1912م، 1925م، والقانون لسنة 1928م، بتطبيق القانون على البوليس في المديريات وبوليس الجمارك وبوليس الميناء وبوليس السجون وبوليس مصلحة منع تجارة الرقيق وبوليس السكة حديد وبوليس النقل النهري. ووفق أحكام قانون البوليس (وقتئذ) عند إرتكاب أي من أفراد البوليس لمخالفات أو جرائم منصوص عليها في قانون البوليس ولوائحة، أو إرتكابه لفعل يشكل جريمة وفقاً للقانون الجنائي (قانون العقوبات)، يُحاكم فرد البوليس من الضباط والأنفار(صف الضباط والجنود) بجزاءات تأديبية مجلسية محاسبية، يوقعها ضابط البوليس الأعلى بإجراءات مجلس تحقيق إداري، أو توقيع عقوبات وفق القانون الجنائي (قانون العقوبات الجنائية) أمام محكمة قاضي من الدرجة الثانية، أو أي محكمة قاضي أعلى، سواء بطريقة إيجازية أو غير إيجازية. ولذلك تأريخ القانون لأنظمة أجهزة القوات النظامية في السودان، له أهميته، لأسبقية نشأة وتكوين وتنظيم البوليس (الشرطة) السودانية عن الجيش السوداني (قوات الشعب المسلحة أو القوات المسلحة).(19) لنشأة وتكوين الجيش السوداني وسودنته (Sudanization/Sudanizing) عام 1925م من قوة دفاع السودان Sudan Defence Force، ومن قوة الرديف Radif في عام 1927م. وحيث قوة دفاع السودان وقوة الرديف، قوات سودانية تم تجنيدها محلياً بقيادة بريطانية، لمساعدة البوليس(الشرطة) في حالة الإضطرابات المدنية (للعمل كقوة تدخل سريع)، وللحفاظ على حدود السودان تحت سلطة الإدارة البريطانية. وإن تمت الإستعانة بضباط عسكريين من قوات الجيش المصري المتمركزة في حاميات صغيرة موزعة في الخرطوم، وبربر ودنقلا وحلفا، وبورتسودان، والفاشر، والجزيرة وسنار، وبحر الغزال، وأعالي النيل، وكردفان، والإستوائية، ومهمتها ووظيفتها حماية البلاد من العدوان الخارجي وحفظ الأمن الداخلي. فكان أن إسندت للضباط العسكريين مهام القيام بأعمال البوليس (الشرطة) في الضبط الإداري والضبط القضائي لحفظ الأمن والنظام العام. وعملياً مهام الضبط الإداري والضبط القضائي كان يباشرها ويقوم بها الضباط العسكريين في مناطق الحاميات المصرية، وفي المناطق المسيطر عليها الجيش الإنجليزي، لإلمام الضباط العسكريين المصريين بالقوانين العسكرية وممارستها، ولفرض الأحكام العرفية من الجيش البريطاني في الأماكن المسيطر عليها. وعملياً، تمّ تعيين اليوزباشا(رتبة نقيب) عبدالجليل عصمت أفندي ومعه عدد 12 ضابط للقيام بأعمال البوليس إبتداءاً من اليوم الأول من شهر مايو سنة 1899م، ومن ثمّ، تمّ تعيين عدد 11 نقيب(يوزباشا)، ليعملوا مآمير للقيام بمهام البوليس كل في الجهة التي تمّ تعيينها فيها، ويعاونهم في أعمال البوليس، أنفار أفراد من حرس السلاطين وخفراء من رجال زعماء القبائل. ولاحقاً تمّ تعيين وإستيعاب رجال أفراد بوليس من الخفراء بديل لأفراد الجيش المصري، والكف بعدم تطبيق الأحكام العرفية في المواقع تحت سيطر الجيش البريطاني. ليقوم الخفراء المعينين أفراد بوليس، بأعمال إجراءات إعلانات الحضور والقبض والتفتيش. وذلك لإلمام الضباط العسكريين بالقوانين المدنية التي يلزم تطبيقها في أعمال البوليس المدني، وبما في ذلك تخويلهم صلاحيات الوظيفة القضائية بسلطات قاضي من الدرجة الثالثة، والتي كان يضطلع بها ويباشرها المآمير العسكريين برتبة المقدم والعقيد المعينين في الوظائف الإدارية السياسية(مدراء المديريات)، والضباط العسكريين اليوزباشية(رتبة النقيب). وأساس الدراية والإحاطة بالقوانين المدنية للضباط العسكريين، هو قانون العقوبات لسنة 1899م وقانون تحقيق الجنايات لسنة 1899م، لتضمينهما الجرائم المختلفة، والجزاءات التي يمكن أن تُوقع على الجاني، وبيان الإجراءات والمحكمة التي يمكن أن تحاكم المتهم. لأن قانون العقوبات 1899م وقانون تحقيق الجنايات لسنة 1899م السارى نفاذهما بتاريخ 02/10/1899م، مصدرهما المعرفي للضباط العسكريين، مُستمد من إلمامهم ودرايتهم التعليمية بأحكام القانون العسكري، وخاصة قانون تحقيق الجنايات لسنة 1899م، لتعريفة عبارة الضابط المسئول عن نقطة الشرطة. بأنه الضابط المسئول ومن يليه في حالة غيابه ممن يكون برتبة أعلى من الكونستابل (Constable)، أي من أفراد صف الضباط من الشرطة في اللغة الإنجليزية(وهي الفئة التي تقع بين ضابط الشرطة والأنفار الأفراد برتبة الجاويش (الرقيبSergeant ) في التنظيم العسكري للجيوش)، وبما في ذلك بقية الصف ضباط والجنود المجنديين في الخدمة. وقد كان أن نص قانون تحقيق الجنايات لسنة 1899م على صلاحية وسلطات الضابط المسئول عن نقطة الشرطة في تلقي البلاغات والتحري وسلطاته بشأنها، وتحديد مسار القضية، وصلاحية الضابط في منع الجريمة، وسلطاته في تفريق التجمهر غير المشروع من تلقاء نفسه أو بتعليمات القاضي، وكيفية الإستعانة بالقوة العسكرية، وكل الإجراءات المتعلقة بإستخدام القوة العسكرية أو المدنية.(20) أما جهاز المخابرات العامة General Intelligence Service، فهو حديث النشأة بنشأة الدولة السودانية حتى العام 2020م، للإشارة له في الوثيقة الدستورية لسنة 2019م(مهر دماء الثورة السودانية المجيدة 19 سبتمبر 2018م - 11 أبريل 2019م). لأنه حتي عام 1972م ما كان السودان يعرف شيئآ إسمه (جهاز الأمن بمسياته وتنضيماته الإدارية والتشريعية العديدة). ففي عهد الحكم الانجليزي المصري للبلاد، نشأ في مكتب السكرتير الإداري جهاز الأمن العام، وهو الوليد الشرعي لوزارة الداخلية وقيادة بوليس السودان (الشرطة السودانية). فمن حيث النشأة لمنظومات أجهزة الأمن السودانية، كان هناك قسمآ بوزارة الداخلية إسمه الأمن العام(وأشتهر بمسميات عديدة: البوليس السري، قلم المخابرات، بوليس الجلابية، ثم صار إسمه القسم المخصوص)، ومهمته، جمع المعلومات عن، قادة الاحزاب الوطنية، وقادة العمل السياسي، ورؤساء الصحف والصحفيين. وكان يهتم إهتماماً خاصاً، بعلاقة، كبار السياسيين السودانيين بالسياسيين المصريين، وأنشطتهما، ويهتم برصد ومتابعة النشاط السياسي وسط الجماهير. وكانت التقارير الأمنية والمعلوماتية، ترفع يومياً من مكتب البوليس السري بوزارة الداخلية، للحاكم العام بالقصر الرئاسي، حيث يتخذ فيها قراراته، ويحولها للسكرتيرالإداري، لإتخاذ اللازم، من إعتقالات، أو منع الصحف من الصدور. وظل جهاز الأمن العام بعد إستقلال السودان جزءاً رئيسياً من وزارة الداخلية بإسم الأمن الداخلي، وتركزت مهامه في متابعة النشاط السياسي الداخلي للأحزاب والنقابات والطلاب بتركيز مستمر على أنشطة الجبهة المعادية للإستعمار. إلا أنه ومنذ 25/05/1969م، ولأسباب سياسية وعقائدية لمجموعات أنظمة الحكم والإدارة المتوالية والمتعاقبة، حدثت تغييرات هيكلية إدارية جذرية لحقت تكوين وتبعية جهاز الأمن الداخلي(الأمن العام) خارج وزارة الداخلية وتحت مسميات عديدة. وما يلفت النظر، جهاز الأمن القومي وهيكلته التنظيمية الإدارية، قامت على التنظيم شبه العسكري، وبقانون خاص، هو قانون جهاز الأمن القومي لسنة 1970م، وقانون الأجهزة المركزية لأمن الدولة لسنة 1974م، وقانون جهاز أمن الدولة لسنة 1978م. ويلاحظ من القانون لسنة 1978م أن جهاز أمن الدولة بإدارتيه الأمن الداخلي والأمن الخارجي، وهيكلته، قامت على النسق والتنظيم العسكري. وتوالت التشريعات التنظيمية والهيكلة الإدارية للأجهزة الأمنية من غير قوات الشرطة(المباحث المركزية الجنائية) والجيش(قلم الإستخبارات العسكرية)، بصدور قانون الأمن الوطني لسنة 1988م، 1990م، 1994م، 1999م بتعديلاته لسنة 2004م، والقانون لسنة 2010م، وأخيراً النص الخاص عن المخابرات العامة الوارد في الوثيقة الدستورية لسنة 2019م، ضمن مكونات الأجهزة النظامية والمحاكم العسكرية، كأجهزة عسكرية لإنفاذ القانون ومنظومات أمنية مكملة لبعضها البعض.(21) وما يلاحظ من تشريعات قوانين أجهزة الإستخبارات الأمنية المتعددة منذ القانون لسنة 1970م - نظراً للقانون بأنه المصدر لتشريعات قوانين منظومات الأجهزة الإستخبارية والأمن والمخابرات (بمسمياتها التاريخية على نحو الإشارة لها - إستخدامها لإصطلاح كلمة المحكمة، إشارة لها في عبارة (محكمة الجهاز)، وفي أنواع محاكم الجهاز(المحكمة الإيجازية والمحكمة الغير إيجازية)، ومحكمة الإستئناف، وذلك لإختصاص محاكم الجهاز في محاكمة منسوبيها من الأعضاء المعينين في خدمة جهاز الأمن الوطني، وذلك على نحو ما جاء في القوانين لسنة 1990م، 1994م، 1999م، 2010م. والإشارة لعبارة المحكمة الدستورية في القانون لسنة 1999م، 2010م، للنص في قانون جهاز الأمن لسنة 2010م على تطبيق أحكام القانون على أي شخص من غير الأعضاء المعينين في خدمة الجهاز، وذلك، لممارسة الجهاز سلطة القبض والإعتقال والتفتيش بأمر من مدير الجهاز (سلطة إدارية)، والتحري والتحقيق مع المدنيين من غير الأعضاء المعينين في خدمة جهاز الأمن الوطني، لإخضاع أي شخص آخر يكون متهماً بالإشتراك مع أي عضو من الجهاز بإرتكاب جريمة وفقاً لأحكام قانون جهاز الأمن الوطني. وللإشارة لعبارة المحكمة القومية العليا التابعة للسلطة القضائية(القضاء المدني الطبيعي، أي القضاء العادي)، لرفع أحكام عقوبات الإعدام في غير الحدود المؤيدة بواسطة محاكم الإستئناف التابعة لجهاز الأمن الوطني، وذلك لمراجعة تلك الأحكام بواسطة دوائر المحكمة القومية العليا في السلطة القضائية، وللحد من إستقلالية محاكم الجهاز بعيداً عن رقابة القضاء في السلطة القضائية.(22)

من التطور الإداري والتشريعي الذي صاحب نشأة وتكوين الأجهزة النظامية، أول نشأة وتكوين للقضاء العسكري في السودان كان عام 1965م، بهيكلته ضمن وحدات وإدارات الجيش السوداني، بإنتداب عدد من المستشارين القانونيين من ديوان النائب العام والهيئة القضائية، وعملوا كمكاتب متخصصة في مزاولة مهنة القانون للدولة(الحكومة) داخل الجيش السوداني، لتقديم النصح والمشورة في المسائل القانونية لقيادة الجيش وأفرعها والمحاكم العسكرية التي يتم تشكيلها. وأول تنظيم إداري وتشريعي للقضاء العسكري كفرع مستقل بالقيادة العامة للجيش السوداني، تمّ عام 1969م بموجب قانون قوات الشعب المسلحة لسنة 1957م، وأُسند للقضاء العسكري مهام محددة في تقديم المشورة والرأي القانوني لإدارات وحدات الجيش والمحاكم العسكرية.(23) 

ومن التحليل الإستقرائي التأريخي لأحكـام قانون قوات الشعب المسلحة لسنة 1957م وتعديلاته، والقـانون لسنة 1969م، نجد أن القانون العسكري المصري لسنة 1893م المعدل في عام 1925م، هو القانون الذي مهد لإصدار قانون قوة دفاع السودان لسنة 1925م، وإذ بمقتضاه، كان أن تمّ تشريع قانون قوات الشعب المسلحة لسنة 1957م. وإذ يلاحظ أيضاً في قانون دفاع السودان لسنة

1925م، عدم خضوع العسكريين الإنجليز العاملين بقوة دفاع السودان، لأحكام قانون قوة دفاع السودان لسنة 1925م.(24)

6. قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية في التشريع:

بوجه عام، من النشأة والتطور التنظيمي الإداري والتشريعي لقضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية في السودان. كلمة محكمة وكلمة قضاء، لم يقنن لها كمحاكم وقضاء خاص مستقل عن قضاء ومحاكم السلطة القضائية. وإن كان كلمة محكمة لأول مرة وردت في قوانين الشرطة، إشارة لمحكمة الجنايات أمام قاضي الدرجة الثانية أو محكمة قاضي أعلى في محاكم السلطة القضائية. وكذلك وردت في القانون لسنة 1979م، لمحاكمة الشرطي الذي يتهم بإرتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في القانون، لمحاكمته أمام هيئة قضائية مشكلة من ضباط الشرطة بصفة إبتدائية وإستئنافية، مع إختصاص نوعي لمحكمة الجنايات العادية في محاكم السلطة القضائية، لمحاكمة الشرطي أمامها، ولكن بعد موافقة مدير الشرطة. وأما عبارة قضاء الشرطة، فقد وردت في القانون لسنة 1992م، لنص القانون على نشأته، بأن ينشأ بقرار من رأس الدولة قضاء شرطي متخصص من الضباط ذوي المؤهلات القانونية(قضاة قضاء الشرطة)، للفصل في الأفعال أو الإمتناعات الواقعة من أي شخص خاضع لأحكام ذات القانون، وتعتبر جريمة بموجب ذات القانون، أو أي قانون آخر، إذا أرتكبت أثناء تأدية العمل الرسمي أو بسببه. وأن تحدد اللوائح شروط تعيين قضاة قضاء الشرطة. ومع إختصاص نوعي للمحاكم العادية لمحاكمة أفراد الشرطة أمامها في جرائم الحدود والقصاص والدية، أو إذا قرر الوزير(وزير الداخلية) وفق تقديراته ومقتضيات العدالة، إحالة أي دعوى جنائية متهم فيها أي فرد من أفراد الشرطة، لتحاكم الدعوى والشرطي أمام محكمة عادية. ولأي محكمة عادية مختصة(محاكم السلطة القضائية) تحاكم أي شرطي خاضع لأحكام قانون الشرطة لسنة 1992م، يجوز لها إحالة أي قضية لقضاء الشرطة متى ما قدرت أن في ذلك تحقيق للعدالة. وحدد القانون أنواع محاكم الشرطة بمحاكم شرطة إيجازية ومحاكم شرطة غير إيجازية ومحاكم شرطة إستئنافية ومحكمة الشرطة العليا. وتشكيل محاكم الشرطة الإبتدائية(محاكم الموضوع)، تشكيلها يتم من مدراء الشرطة في الولايات والإدارات العامة المركزية(الرئاسات)، وتكون برئاسة ضابط واحد أعلى رتبة من الشرطي المتهم. وفيما عدا محكمة الشرطة الغير إيجازية، رئيس المحكمة، يكون برتبة عقيد، ولا تقل رتبته وأقدميته عن رتبة وأقدمية الشرطي المتهم. ومحكمة الشرطة الإستئنافية تشكيلها يتم بأمر يصدر من مدير قضاء الشرطة من ثلاثة ضباط، شريطة أن لا تقل رتبة أي من الأعضاء وأقدميته عن رتبة رئيس المحكمة الإبتدائية وأقدميته. ومحكمة الشرطة العليا تشكيلها يتم بأمر يصدره مدير قضاء الشرطة من خمسة قضاة من

ذووي المؤهلات والخبرة القانونية، شريطة أن لا تقل رتبة رئيس المحكمة عن رتبة المتهم وأقدميته. ولمحاكم الشرطة الإبتدائية إختصاص نوعي، إذ تختص محاكم الشرطة الإيجازية بمحاكمة أفراد الشرطة في المخالفات ذات الطابع الإداري المتعلق بالسلوك المهني، وتوقيع جزاءات تأديبية. أما محكمة الشرطة الغير إيجازية، تختص بالفصل في الجرائم والمخالفات المنصوص عليها في قانون الشرطة لسنة 1992م أو الجرائم والمخالفات المنصوص عليها في أي قانون آخر. وإختصاص نوعي لمحكمة الشرطة العليا، بتأييد عقوبة فصل أي ضابط من الخدمة، أو تخفيض رتبته، وتأييد عقوبة السجن، متى كانت سبع سنوات فأكثر، والنظر في طلبات فحص الأحكام في حالة تجاوز التطبيق السليم للقانون، وأيضاً الفصل في طلبات إعادة النظر في أي حكم صادر من محكمة الشرطة الإستئنافية.(25)

ودون بيان تفصـيل لقضاء ومحاكم الشـرطة - على نحو ما تقدم الإشـارة له في قانون الشرطة لسنة

1992م - إذ أن التفصيل فرض نفسه، لأهميته بالنسبة لتشريعات قوانين الشرطة المتتالية في القانون لسنة 1999م، 2008م، 2017م. لأنه من خلال مسيرة عملي في خدمة الشرطة، كنت من المتابعين لما يدور من المختصين والمهتمين بقضايا وشئون الشرطة، فقد دارت نقاشات في السلطة القضائية في أروقة المحكمة العليا ووزارة العدل عن مدلول قضاء الشرطة والقضاء العسكري، لتبعيتهما للسلطة التنفيذية. والحديث الصريح الذي لمسته من قضاة أفاضل في المحكمة العليا، ومرئياتهم المدونة في العديد من مدونات الأحكام القضائية عن شرعية ومشروعية إختصاص محاكم الشرطة والقوات المسلحة النظر والفصل في مواد القانون العام الجنائي والمدني والإداري. والمناقشات الدائرة بين المختصين المُطالِبة بالتفرقة بين مسميات القضاء العسكري وقضاء الشرطة، لضرورة التمييز بينهما وقضاء محاكم السلطة القضائية، لولاية القضاء في السودان للسلطة القضائية المنصوص عليها في جميع الدساتير المتعاقبة في السودان، منذ أول دستور صدر عام 1953م، والدساتير لسنة 1956م، 1964م بتعديلاته، 1973م، 1958م، 1998م، وبالطبع أخيراً الدستور الإنتقالي لجمهورية السودان لسنة 2005م، وتعديلاته لسنة 2015م، 2017م، وأخيراً الوثيقة الدستورية لسنة 2019م. وبمقتضى تلك المناقشات بين المختصين في إدارات التشريع بوزارة الداخلية ووزارة الدفاع ووزارة العدل، صدرت تعديلات في تشريعات قوانين الشرطة، بتعديلات جوهرية في قانون الشرطة لسنة 1999م، بالإشارة للإدارة القانونية بديلاً لعبارة قضاء الشرطة. ولم يتم إستبدال عبارة القضاء العسكري في قوانين القوات المسلحة السارية المفعول وقتئذ في القانون لسنة 1986م، 2007م، 2013م، إذ صارت عبارة القضاء العسكري كما هي دون تعديل لها، وإن تمّ تغيير شكلي ظاهري بتغيير واجهة مباني القضاء العسكري، بكتابة عبارة الإدارة القانونية، دون إشارة لعبارة القضاء العسكري. ولنشأة أجهزة الإستخبارات المتخصصة بمسميات جهاز الأمن المتعددة، تأثرت تشريعاتها بأحكام قوانين الشرطة والجيش في السودان. ولتجاوز التكرار، فقد سبق الإشاره له في موضعه، لتناول الإشارة لمحاكم الجهاز في القوانين المنشئة لجهاز الأمن بمسمياته المتعدة لسنة 1970م، 1971، 1974م، 1978، 1999م بتعديلاته لسنة 2004م، والقانون لسنة 2010م، وأخيراً الوثيقة الدستورية لسنة 2019م، للنص على أجهزة القوات النظامية وإختصاصات محاكمها العسكرية، ومكانتها من محاكم وقضاء السلطة القضائية. وتباين تموضع قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية وإختصاصاتها في محاكمة منسوبي الأجهزة النظامية تحت مواد القانون العام الجنائي والمدني والإداري، ومحاكمتهم أمام محاكم السلطة القضائية.   (26) 

وأول إشارة تشريعية تقنينية في الدستور لقضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، وردت في المادة 196 من الدستور الدائم لسنة 1973م، إشارة لها بعبارة المحاكم الخاصة Tirbunal courts، للنص في الدستور على عبارة الهيئة القضائية والمحاكم الخاصة، إشارة لها ضمن أحكام السلطة القضائية. وقد جاءت الإشارة إلى إنشاء وتكوين، المحاكم العسكرية، ومحاكم أمن الدولة، وأي محاكم أخرى، وأن القانون ينظم كيفية إنشاء وتكوين تلك المحاكم، وحيث لم يشار إلى عبارة قضاء الشرطة أو عبارة القضاء العسكري. ووفقاً لأحكام الدستور الدائم لسنة 1973م، وردت عبارة القوات النظامية، بالإشارة لها في المود 198، 200، 201م(أحكام قوات الشعب المسلحة وقوات الأمن)، لإعتبارها في المادة 200 من الدستور قوات نظامية. والإشارة في المادة 201 من الدستور الدائم للشرطة وقوات السجون، بعبارة قوات الأمن، وأنهما قوة نظامية. وكما أشارت المواد 15، 16/(أ/ 4/أ)، 122- 129، 130، 134، 136 من  دستور السودان الإنتقالي لسنة 1405هـ(دستور السودان الإنتقالي لسنة 1985م)، لعبارة القوات المسلحة، وعبارة المحاكم العسكرية منفردة عن أحكام السلطة القضائية وولاية القضاء، لنص الدستور الإنتقالي لسنة 1985م على أن القانون ينظم إنشاء وتشكيل المحاكم العسكرية وعضويتها، ويبين إختصاصاتها وإجراءاتها. ولم يرد في الدستور بطريق مباشر وصريح، إشارة لعبارة قضاء ومحاكم الشرطة، أو عبارة القضاء العسكري. وإن كان بطريق غير مباشر، يستخلص الإشارة لمحاكم الشرطة والمحاكم العسكرية، للنص في الدستور الإنتقالي لسنة 1985م على عبارة أجهزة الخدمة العامة (إشارة للوزارات، ومنها وزارة الدفاع ووزارة الداخلية)، وإستمرارية القوانين القائمة، وإستمراية أجهزة الدولة ومؤسساتها. وبمقتضى تلك الأحكام الدستورية، ظلت الأحكام التشريعية الخاصة بأجهزة القوات النظامية السارية في القوانين لسنة 1957م (قانون القوات المسلحة)، 1979م(قانون الشرطة) هي السارية المفعول وقتئذ، تنظيماً للقوات المسلحة، وقوات الشرطة وتوابعها من قوات الشرطة الأخرى(السجون والدفاع المدني والحماية البرية(الحياة البرية) وشرطة المرافق العامة). وبمقتضى ذلك، تمت تعديلات تشريعية صدر بمقتضاها قانون الشرطة لسنة 1406 هـ/ 1986م، وقانون قوات الشعب المسلحة لسنة 1406م/ أبريل 1986م، دون تعديلات لقوانين شرطة السجون لسنة 1984م، وقانون شرطة الحياة البرية(قوات حرس الصيد لسنة 1981م) وقانون شرطة الدفاع المدني(قانون المطافي لسنة 1988م). وبالنسبة لتشريعات قوانين قوات الشعب المسلحة، أشار القانون لسنة 1986م للمحاكم العسكرية والقضاء العسكري، وطبقاً لأحكام قواعد القوات المسلحة لسنة 1958م بتعديلاته لسنة 1974م، تختص محاكم القضاء العسكري بمحاكمة أفراد القوات المسلحة أمام مجالس عسكرية، لإرتكابهم أي من الجرائم أو المخالفات المنصوص عليها في قانون القوات المسلحة لسنة 1957م بتعديلاته، والقانون لسنة 1986م. وكما تختص محاكم القضاء العسكري بمحاكمة فئات الأشخاص المدنيين في حالة إرتكابهم أي من الجرائم المتعلقة بالقوات المسلحة، وأي من الجرائم المنصوص عليها في القانون الجنائي العام المتعلقة بالقوات المسلحة. وكما في حالات إعلان حالات الطوارئ، تخضع أجهزة القوات النظامية من الشرطة لأحكام قانون قوات الشعب المسلحة. والمحاكم العسكرية المنصوص عليها في القانون لسنة 1986م، محكمة الإستئناف العسكرية، والمحاكم العادية، والمحاكم الميدانية العسكرية. وطبقاً لقانون قوات الشعب المسلحة لسنة 1986م، لأول مرة يشير القانون صراحة وبطريق مباشر لأحكام خاصة بالقضاء العسكري، للنص فيه بأن يتبع فرع القضاء العسكري للقيادة العامة (أحد إدارت هيئة الإدارة)، ويختص بأي عمل قانوني للقوات المسلحة، ويشترط في تعيين ضباط فرع القضاء العسكري، شرط التأهيل في القانون والحصول على شهادة تنظيم مهنة القانون، ويتم تعيين ضباط فرع القضاء العسكري بقرار يصدر من رأس الدولة بتوصية من القائد العام(رئيس هيئة الأركان).(27)

التطور التشريعي لبنية أنظمة وقضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، برز بشكل واضح في دستور جمهورية السودان لسنة 1998م/ 1419هـ في المواد 122، 123، 124، 125 من الدستور، للنص الصريح والمباشر على أن قوات الشعب المسلحة، قوات عسكرية قومية التكوين، وأن القانون ينظم إنشاء المحاكم العسكرية وتشكيلاتها وإختصاصاتها وسلطاتها وإجراءاتها والخدمات القانونية العسكرية، للإشارة للقوات الشعب المسلحة ضمن الأحكام الدستورية للقوات النظامية. ولإشارة الدستور لقوات الشرطة وقوات الأمن، بأنهما قوات نظامية قومية التكوين، ولم يشير الدستور لمحاكم الشرطة ومحاكم الأمن على النحو التفصيلي الوارد في الأحكام الدستورية الخاصة بالقوات المسلحة. إنما الدستور جاء بحكم عام مطلق مجمل غير مخصص وواضح ومحدد، لأن الدستور نص على أن القانون يحدد نظام قوات الشرطة ونظم قوات الأمن. إلا أنه ووفقاً لقوانين قوات الشرطة وقوات الأمن الصادرة في ظل أحكام الدستور لسنة 1998م، يلاحظ من تشريعات القوانين الصادرة أن الطبيعة العسكرية التنظيمية والإدارية لقوات الشرطة وقوات الأمن، ظلت هي السائدة والغالبة. وكما حسبما أشرنا له، تضمنت قوانين قوات الشرطة وقوات الأمن في تنظيمها تكوين محاكم ذات طبيعة وإختصاص جنائي وعقابي تأديبي لمنسوبيها، بتوقيع عقوبات السجن والغرامة المالية، وكذلك مجالس محاسبة تأديبية لمنسوبيها، بتوقيع جزاءات إدارية، وتوقيع غرامات مالية والتعويض بأحكام لائحية(لوائح تأديبية) في المخالفات الإدارية المخالفة لقواعد السلوك المهني.(28)

ومن التحليل للنصوص التشريعية في الدستور لسنة 1998م، الإشارة الصريحة للطبيعة العسكرية التنظيمية للقوات المسلحة، والإشارة لقوات الشرطة وقوات الأمن، بأنها قوات نظامية، نابع من إختلاف مهام القوات المسلحة وتوابعها من القوات الشعبية الطوعية(الدفاع الشعبي)، وقوات الشرطة وقوات الأمن وتوابعهما من الشرطة الشعبية والأمن الشعبي. وذلك للطبيعة المدنية التشغيلية لقوات الشرطة وقوات الأمن، كأجهزة لإنفاذ القانون لخدمة أمن الدولة والمواطنين. وذلك على نحو ما أشرنا له وفصلناه في موضعه عند الحديث عن أجهزة العمل الإستخباري السياسي وأجهزة الأمن العام، تنفيذاً لمهامها، لإختصاصها برصد الوقائع المتعلقة بعمليات الأمن الداخلي وعمليات الأمن الخارجي، وتحليل مغازيها وخطرها، ووسيلتها في ذلك جمع المعلومات وتحليلها، والتوصية للأجهزة المختصة وذات الصلة بتدابير الوقاية منها. وكذلك أعمال مكافحة الجريمة وحماية الأموال وحفظ النظام العام لمكونات الشرطة(البوليس)، ووسيلتها في ذلك جمع المعلومات المتعلقة بواقعات الأحداث الجنائية المتعلقة بالسلم والطمأنينة وسلامة المجتمع وأخلاقه.

لعل من المناسب هنا الإشارة للجدل الدائر للآن من المختصين والمهتمين في السودان حول مسألة إخضاع المدنيين لأحكام تشريعات قوانين أجهزة القوات النظامية، وذلك على نحو ما أشرنا له عن قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية في القانون الدولي(القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي)، وإخضاع فئات من المدنيين لأحكام القوانين العسكرية، ومحاكمتهم أمام المحاكم العسكرية. ومحاولة دسترة قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية في بعض بلاد المحيط الدولي والإقليمي، وفي السودان منذ دستور السودان الدائم لسنة 1973م بتاريخ 08/05/1973م، والقوانين الصادره بموجبه. لنص الدستور والقانون العادي الوطني على محاكم القضاء العسكري، والنظر للقضاء والمحاكم العسكرية في السودان، بإعتبارها المؤسس لقضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية في السودان، لإبقاء تموضعها في دستور جمهورية السودان الإنتقالي لسنة 2005م، بتعديلاته لسنة 2015م، 2017م، وكذلك في الوثيقة الدستورية لسنة 2019م. وللنص على القضاء والمحاكم العسكرية في تشريعات القوانين الوطنية للدول ذات السيادة بأوضاع هيكلية مختلفة، سواء ذكر تموضعها ضمن القضاء العادي، أو محاكم خاصة، ولكنها بعيده عن السلطة القضائية، لهيكلتها ضمن أبنية السلطة التنفيذية في الوحدات الإدارية ذات التنظيم والإدارة العسكرية الطابع والتكوين. وحجج وأسانيد ذلك التموضع التنظيمي للقضاء العسكري والمحاكم العسكرية، لتفسيرات تاريخية بعيدة نسبياً لثمانينات القرن الماضي، مفادها أن العهدين الدوليين لسنة 1966م، لا يحظر إجراء محاكمات أمام المحاكم العسكرية، لإعتبار المحاكم العسكرية محاكم منشأة بقانون. وإستدراك القول التفسيري لأصحاب الرأي، أن ذلك، لا يعني، إنتهاك، مبادئ ومعايير المحاكمة العادلة الواردة في العهدين الدوليين لسنة 1966م، والواردة في مبادئ حقوق الإنسان لسنة 1948. ولا يمكن بأي حال، تغيير الضمانات المنصوص عليها في العهدين الدوليين، إستناداً إلى الطابع العسكري للمحكمة. وحجج أسانيد الرأي هنا لمرئيتهم، أن من إلتزامات الدول إقامة العدل. وحجة الرأي هنا، لشرعنة إخضاع المدنيين لأحكام تشريعات قوانين أجهزة القوات النظامية، بإختصاص النظر والفصل في أفعال جرائم أطرافها مدنيين، لإعتبارهم مجنى عليهم أو جناة. ولأن القضاء العسكري والمحاكم العسكرية كنظام قضائي، لها سند من القانون الدولي. إلا أن حجج وأسانيد القائلين بمشروعية قضاء ومحاكم القضاء العسكري، تقهقر وتراجع وتلاشي خلال تسعينيات القرن الماضي بعد سقوط جدار برلين وإنهيار الكتلة الشيوعية في بلاد البلقان في دولة يوغسلافيا السابقة، وأخيراً دولة الإتحاد السوفيتي. وسيادة المفاهيم الغربية والأمريكية بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، بظهور مفاهيم العولمة والعالمية والكونية. ونتيجة ذلك، تشكُل وتبلّوُر وظهور مبدأ عالمية التشريعات الدولية، وسيادتها على التشريعات الوطنية القطرية، والمتمثلة في الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان بأجيالها المختلفة، وإتفاقيات منع التمييز العنصري، وميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولي الإنساني المتمثلة في إتفاقيات جنيف الأربعة، ومجموعة الحقوق والحريات اللصيقة بالإنسان- التي يتمتع بها لمجرد كونه إنسان - بصرف النظر عن أي إعتبارات أخرى، ومجموعة الحقوق والحريات التي إستقرت الدول الديمقراطية على منحها لمواطينها، وكذلك مجموعة المبادئ أو القواعد الديمقراطية المسايرة لروح العصر والتي إستقر الفقه والقانون والقضاء الدولي والمقارن على الأخذ بها.(29)

ومن أبرز الحوارات والمناقشات التي صاحبت تشريعات أجهزة القوات النظامية، محاولة السعي أن يكون لأجهزة القوات النظامية قضاء ومحاكم خاصة ذات إختصاص نوعي للنظر وللفصل القضائي في مسائل القانون العام الجنائي والمدني والإداري على منسوبي أجهزة القوات النظامية. وأن يكون لها إختصاص نوعي لمحاكمة المدنيين في بعض الجرائم ذات الطبيعة العسكرية، وبعض الجرائم الماسة بأمن الدولة المتصلة بأنظمة القوات النظامية المنصوص عليها في القانون الجنائي العام. تلك المحاولات أثمر واقعها في ظل عهد سلطة 25 مايو 1969م في محاكمة كوادر الحزب الشيوعي السوداني، لمحاكمة الإنقلابيين على ثورة 25 مايو 1969م، عقب الإنقلاب العسكري فيما تمّ تسميته بثورة التصحيح 19 يوليو 1971م. فقد تمت محاكمة القيادات المدنية والعسكرية الإنقلابية أمام المحاكم العسكرية وفقاً لأحكام قانون القوات المسلحة لسنة 1957م وقواعد القوات العسكرية لسنة 1958م. وكذلك إدماج إختصاص محاكمة المدنيين أمام محاكم أمن الدولة، بالنص التشريعي له في قانون جهاز أمن الدولة لسنة 1978م. ويلاحظ بوجه آخر في تشريعات أجهزة القوات النظامية، الإشارة لإختصاص مباشرة سلطات ما قبل إجراءات المحاكمة في سلطة الإعتقال والقبض والتحري والتحقيق على نحو ما هو منصوص عليه في قوانين القوات المسلحة، وقوانين الأجهزة الأمنية المختصة بجمع المعلومات الإستخبارية السياسية وتحليلها، للنص في تشريعات قوانينها على إخضاع بعض من فئات الأشخاص من غير العسكريين لأحكام قوانينها. وكذلك على نحو ما رأيناه في التعليمات الإدارية الصادرة من مدير عام قوات الشرطة، بمنح محاكم الشرطة إختصاص النظر والفصل في الشكاوى من مدنيين غير خاضعين لأحكام قانون الشرطة، بالنظر والفصل في شكواهم تلك، بصفتهم شاكيين. وكذلك سلطة التنفيذ المدني أمام محاكم الشرطة، بالإختصاص الممنوح بتعليمات إدارية صادرة من مدير عام قوات الشرطة.

ولعل الجدل الفكري والتشريعي حول وبشأن إخضاع المدنيين للقوانين العسكرية، ومحاكمتهم أمام المحاكم العسكرية. ومنح قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، إختصاص الفصل والنظر في مواد القانون الجنائي العام. تلك المناقشات إحتدمت وتيرتها بشده تحت قبة البرلمان في ولاية سلطة المجلس الوطني لنظام الثلاثين من يونيو 1989م. لإجازة تشريع قانون القوات المسلحة لسنة 2007م والقانون لسنة 2013م، وإجازة تشريع قانون جهاز الأمن والمخابرات الوطني لسنة 2010م، وإجازة تشريع قانون شرطة السودان لسنة 2008م تعديل لسنة 2017م. ومرئيات العديد من حجج وأسانيد المحامين وإستشاريو القانون الواردة في مذكرات الطعون الدستورية المرفوعة قضايا من طاعنين أمام المحكمة الدستورية عن دستورية الإختصاص المشرعن لبنيوية ومكانة قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، كنظام قضائي ومحاكم خاصة، ولها إختصاص النظر والفصل القضائي في قضايا ومنازعات هي من إختصاص القضاء العادي المنشأ في السلطة القضائية. وبما في ذلك، مرئيات المختصين والمهتمين بمدى مشروعية محاكمة المدنيين أمام قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، ومدى مقبولية النص التشريعي على إخضاعهم لأحكام قوانينها.(30)   

ويبدو واضحاً من حيثييات القرار التشريعي الخاص بإجازة قانون القوات المسلحة لسنة 2007م والقانون تعديل لسنة 2013م، تأثره بالقانون المصري وبقوانين الدول ذات نظام الحكم الشمولي. وتأثرة كذلك بتفسيرات فقهاء القانون الدولي لفترة أواسط الثمانينات(1984م) عن مشروعية وشرعية القضاء والمحاكم العسكرية، لمرحلة ما قبل بروز تيارات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وتوسعة مفاهيم حقوق الإنسان المعاصرة، وفرض عالميتها وعولمتها وسيادتها على تشريعات القوانين الوطنية القطرية. وهو ما أشار له المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام، ومنظمة هيومن رايتس ووتش Human Rights and Watch(بأن التعديلات التي أدخلت على قانون القوات المسلحة السودانية، تتعارض مع المعايير الدولية المعاصرة لحقوق الإنسان، وأن إجازة القانون بأمر مؤقت من رئيس الجمهورية يتنافى مع الإلتزامات القانونية الدولية للسودان). ومن ما قالت به منظمة هيومن رايتس ووتش Human Rights and Watch بحسب رأي دانيال بيكيل مدير قسم أفريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش Human Rights and Watch(السودان في حاجة إلى تعزيز نظام العدالة لتحسين مستوى إحترام حقوق الإنسان، وإن منح المؤسسة العسكرية المزيد من السلطات القضائية بشأن المدنيين، سيقود السودان في الإتجاه الخاطئ). ومرئيات المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام وهيومن رايتس ووتش(أن محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، تعتبر إنتهاكاً لإلتزامات السودان بموجب القانون الدولي بتوفير محاكمات عادلة). وقالت المفوضية الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في تفسير الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب(إن المحاكم العسكرية لا يجب أن تكون لديها سلطة قضائية على المدنيين تحت أي ظرف من الظروف). وكما أوردت مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، المعنية بالرقابة على الإلتزام بالميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية -  والسودان من الدول الموقعة عليه - (إن محاكمة المدنيين بواسطة محاكم عسكرية، يجب أن يحدث فقط في حالات محدودة للغاية، وعندما لا تكون المحاكم قادرة على القيام بالمحاكمات). (31)

فالتعديلات التي أدخلت على قانون القوات المسلحة، تقوض الحماية المنصوص عليها في القانون الجنائي السوداني فيما يتعلق بتوفير إجراءات التقاضي السليمة، ومن المحتمل أن يتم إستخدام التعديلات بصورة أكثر تشدداً، لإستهداف من تشتبه السلطات في معارضتهم للحكومة. وبذلك فقد تباينت وجهات نظر المهتمين والمختصين السودانيين من الحكوميين الرسميين والقانونيين والسياسيين حول التعديلات بإدخال المدنيين ضمن دائرة المحاكمين عسكرياً. والتيار المعارض، يرى أن التعديلات تمس التراث الفقهي والقضائي العريق للسودان، ومخالفة التعديلات للعهد الدولي لحقوق الإنسان. وبحسب رأي الخبراء القانونيين، يرى المرحوم/ أمين مكي مدني أن التعديلات مخالفة للعهد الدولي الإنساني عن المحاكمة العادلة، ومخالفة التعديلات للدستور نفسه. وأن هناك فرق كبير بين القضاء المدني والقضاء العسكري، والتخوف من المحاكمات العسكرية في عدم توفر العدالة وحقوق الدفاع، وكل ما يقتضي المحاكمة العادلة، والضمانات الدستورية الموجودة والمقررة في الدستور الساري المفعول لسنة 2005م. ويرى الخبير القانوني الضليع/ نبيل أديب(عدم دستورية التعديلات، وأن التعديلات تسحب سلطة أصيلة من القضاء المدني، وتُضيع إحدى أهم ركائز العدالة في السودان، بعدم محاكمة المدنيين أمام قضاتهم الطبيعيين، وأنه يجب عدم الخلط بين القضاء المدني والقضاء العسكري). ويرى الخبير العسكري اللواء(م) محمد الأمين العباس(ضرورة أن يكون المشرع أكثر حرصاً ودقة وعدالة، وأن إختلاف كبير بين المحاكم العسكرية ونظيرتها المحاكم المدنية، والإختلاف في الإجراءات والتكوين والصلاحيات. وتوسعة سلطات القضاء والمحاكم العسكرية، يؤدي إلى تقليل دور القضاء الطبيعي المدني في المجتمع. وبالضرورة يجب عدم إدخال السلطة القضائية في متاهات بوجود القضـاء العسكري، رغم إستعمال بعض الدول لمثل

التعديلات التي تمت في محاكمة المدنيين، مثل ما يتم فى غوانتانامو أو في إسرائيل.).. (32)

بوجه عام، التركيز وتخصيص الحديث التفصيلي عن تشريعات قانون القوات المسلحة، لإعتباره المصدر الذي على أساسه أجهزة القوات النظامية الأخرى(الشرطة، جهاز المخابرات العامة)، تبنت فكرة تأسيس قضاء ومحاكم خاصة بها، بإدخالها وتقنينها في تشريعاتها لمحاكمة منسوبيها، وتوسعة إختصاصات وسطات محاكمها، بأن يكون لها إختصاص النظر والفصل القضائي في مسائل هي من إختصاص وسلطات محاكم القضاء العادي الطبيعي المدني المستقل في السلطة القضائية. ونظراً إلى أن المنظومة الأمنية الرسمية للدولة المعترف بها، تتكون من أجهزة القوات النظامية - القوات المسلحة وقوات الشرطة وجهاز المخابرات العامة - ومع ملاحظة تباين وإختلاف وظائف أجهزة المنظومة الأمنية وخدماتها في توفير الأمن والحماية للمواطن والدولة على نحو ما أشرنا له.(33) وبإعتبار أن قوات الشرطة وجهاز المخابرات العامة، وظيفتهما أنهما قوات نظامية التكوين والتنظيم، ومدنية التشغيل والتوظيف لتوفير خدمة الحماية والأمن. وبالتالي برأي الشخصي، إخضاعهما لقانون القوات المسلحة في غير حالات الطوارئ والظروف الإستثنائية الماسة بأمن الدولة والمجتمع - حالات إعلان الحرب، وحالة عجز وغيبة المؤسسات المدنية القيام بمهامها ووظائفها - تدبير لا يتماشى ولا يتوافق مع المعايير الدولية لمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. وذلك للطبيعة المدنية التشغيلية لقوات الشرطة وجهاز المخابرات العامة لتقديم خدمة الأمن والحماية للمدنيين على مستويات الحكم السلطة الأقرب في الدولة، ولإتصال وإرتباط أعمال ووظائف قوات الشرطة وجهاز المخابرات العامة بالمدنيين. فإنه بذلك، السلطة القضائية ومحاكمها هي المختصة بمحاكمة منسوبي قوات الشرطة ومنسوبي جهاز المخابرات العامة. ولذلك، وجود محاكم خاصة بهما للنظر والفصل في الإتهامات المنسوبة لمنسوبيهما مع وجود أطراف مدنية، تدبير يتعارض مع معايير المحاكمة العادلة الناجزة والمنصفة. وبالتالي، غني الحديث عن أن يكون لمحاكمها إختصاص الفصل والنظر في مسائل القانون العام الجنائي والمدني والإداري، لإختصاص محاكم السلطة القضائية بذلك.(34)

ولبيان عوار تشريعات قوات الشرطة وجهاز المخابرات العامة، التقارير الدولية ركزت بشدة عن الحصانات الممنوحة لأجهزة الشرطة وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، مقررة أنها وسيلة للإفلات من العقاب، بخلاف تبريرات المحكمة الدستورية، لتقريرها أن الحصانات ذات طبيعة مشروطة وعلى إمكانية المراجعة القضائية لها. ونشير للجدل الدائر حول تشريعات قوانين جهاز المخابرات العامة الواردة في قانون جهاز الأمن والمخابرات الوطني لسنة 2010مThe Bureau Of State Security Ordinance ، لإعتباره النموذج للمتغيرات التي صاحب قوانين المنظومة الأمنية الإستخبارية السياسية من غير قوات الشرطة(البوليس)، ولثبات السمات الأساسية للقانون طيلة حقبة سنوات حكم سلطة 25 مايو 1969م، وحقبة سلطة الثلاثين من يونيو 1989م العسكريتين الشموليتين. فقد تجاذبت وتعددت الخلافات والنقاش حول قانون جهاز الأمن والمخابرات الوطني في مهام وإختصاصات الجهاز وسلطاته، بجدل الحديث عن الإختصاصات في جمع المعلومات وتحليلها وتقديم المشورة بشأنها لجهات الإختصاص المعنية، وبالنظر إلى سلطات الجهاز الواسعة في القبض والإعتقال والتفتبش والتحري والتحقيق والإستدعاء، لمنح القانون الجهاز سلطات تتخطى وتتجاوز سلطات القضاء والنيابة والشرطة الممنوحة بموجب قانون الإجراءات الجنائية الساري المفعول. والرأي بشأنها، أنها إختصاصات وسلطات تتجاهل حرية المواطنة المنصوص عليها في الدستور لسنة 2005م، وكما تتجاهل الضمانات التي يوفرها قانون الإجراءات الجنائية الساري المفعول، ولا يضع أي إعتبار للمعايير الدولية المعتبرة لحقوق الإنسان الموقع والمصادق عليها بقانون وطني من حكومة السودان والتي نص عليها الدستور لسنة 2005م، بأنها جزء لا يتجزأ من الدستور. ودولياً صدرت العديد من الإنتقادات لتشريعات قانون جهاز الأمن القومي والمخابرات الوطني National Inteeligence and Security Service، فقد صدر على سبيل المثال لا الحصر، تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة المعنيين بالسودان بتاريخ 5/11/2009م، بمطالب إرشادية وتوجيهية للمشرعين السودانيين، بأنه يجب على السلطات السودانية، إدخال إصلاحات على قانون الأمن الوطني، بتقليص سلطات الإعتقال والإحتجاز الموسعة، ونزع الحصانات التي يتمتع بها منسوبي الجهاز. وكما أشار التقرير لحالات خرق الأجهزة الأمنية في دارفور للقانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وقد وصفت جورجيت غانيون(مديرة قسم أفريقيا في هيومن رايتس ووتش) قانون الأمن الوطني لسنة 1991م وتعديلاته لسنة 2001، بأنه أداة لقمع الدولة للمعارضين لسياسات الحكومة، وأنه يجب إصلاح القانون، بما يتوافق مع معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان ومبادئ القانون الإنساني الدولي. ودعت هيومن رايتس ووتش المشرعين السودانيين لضروروة الحدّ من الصلاحيات الواسعة للإعتقال والإحتجاز والتفتيش والمصادرة للأشياء والممتلكات الواردة في مشروعات تشريعات قوانين الأجهزة الأمنية والعسكرية المقدمة للسلطة التشريعية، والمطالبة البديلة، بإدراج ضمانات حماية للمقبوض عليهم، بالحق في الإخطار فوراً بأي إتهام، والحق في المثول أمام القاضي على وجه السرعة، والحق في أن يحاكم المتهمين في غضون فترة زمنية معقوله أمام قاضيه الطبيعي. ومطالبة المشرعين السودانيين، بأن يتم تمرير مشروعات القوانين، بما يضمن صيانه الحق في المحاكمة العادلة الناجزة والمنصفة، كما هو مكفول في الدستور الإنتقالي لسنة 2005م. وإسقاط الحصانة عن منتهكي حقوق الإنسان، ومحاسبتهم على جرائمهم المرتكبة بفعل أو بسبب تأدية وظائفهم العامة، بما يضمن عدم الإفلات من العقاب.(35)

إلا أن التغيير والإصلاح التشريعي لقوانين ودستورية قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، بدأ يتخلق جنينياً بالطعن الدستوري بالنمرة:م د/ ق د/199/2013م بتاريخ 03/11/2014م، المقيد بسابقة النقيب شرطة/ أبوزيد عبدالله صالح تكل الله/ضد/ وزارة الداخلية ورئاسة الجمهورية وحكومة السودان. والحكم الدستوري بالنمرة:م د/ق د/243/2015م بتاريخ 15/01/2017م، سابقة الرقيب أول شرطة/ نزار هاشم عبدالله بخيت/ضد/ حكومة السودان ووزارة الداخلية. وحكم المحكمة الدستورية بالنمرة:م د/ق د/262/2018م بتاريخ 26/12/2018م، سابقة الملازم أول شرطة/ محمد صالح على/ضد/ حكومة السودان ووزارة الداخلية. وتلاها عدد من الأحكام الدستورية، وتمّ إعلانها للجهات المختصة والمعنية بها في وزارة العدل ووزارة الداخلية ورئاسة الجمهورية. وبمقتضى تلك الأحكام المحكمة الدستورية أرست مبدأ عدم إختصاص محاكم الشرطة بمحاكمة منسوبيها تحت مواد القانون الجنائي، وأن الدستور لم ينص صراحة وبطريق مباشر على أن يكون لمحاكم الشرطة إختصاص جنائي عند محاكمة منسوبيها.(36) 

وحيث ذات النص التشريعي الدستوري الوارد بشأن قوات الشرطة(البوليس)، لا يختلف كثيراً عن النص التشريعي الدستوري بشأن القوات المسلحة (الجيش)، ولا يختلف عن النص الخاص بجهاز الأمن والمخابرات الوطني(الإستخبارات). فالدستور لم ينص صراحة وبشكل مباشر أن يكون لمحاكمهم إختصاص جنائي دستوري لمحاكمة منسوبيهم. كالنص الصريح المباشر الوارد في المادة 122/(2) من دستور جمهورية السودان الإنتقالي لسنة 2005م بتعديلاته لسنة 2015م، 2017م، والمادة 15/(1/ز) من قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م، بشأن الإختصاص الجنائي الممنوح للمحكمة الدستورية، لمحاكمة رئيس الجمهورية  ونوابه ورئيسي الهيئة التشريعية وقضاة المحكمة القومية العليا.(37)

7. الواقع التشريعي والعملي لقضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية:

يلاحظ من التطور التشريعي لقضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، تأرجحها ما بين الإستقلالية والتبعية كقضاء ومحاكم متخصصة في السلطة التنفيذية، ولكنها بعيدة عن السلطة القضائية وفي ذات الوقت تشارك السلطة القضائية إختصاصات وسلطات، تختص بها هيئات محاكم السلطة القضائية. ولتخفيف درجة إستقلالية وتبعية قضاء ومحاكم القوات النظامية لوحداتها الإدارية في السلطة التنفيذية، فإن عقوبة الإعدام وعقوبة السجن عشرة سنوات فأكثر التي يحاكم بها منسوبي القوات المسلحة، المشرع جعل نهائيتهما في التأييد لهما أمام السلطة القضائية المدنية، بأن يتم رفعهما للمحكمة القومية العليا. وكذلك عقوبة الإعدام لمنسوبي جهاز الأمن والمخابرات الوطني (جهاز المخابرات العامة)، على الرغم من وجود عقوبة السجن المؤبد التي يتم تأييدها من مدير عام الجهاز. ووفقاً لأحكام قانون شرطة السودان الساري المفعول، أحكام عقوبة السجن لمدة خمس سنوات فأكثر(من دون سقف إنتهائي لها) وعقوبة الفصل من الخدمة للضباط، والتي يتم توقيعها على منسوبي قوات الشرطة، يتم تأييدها برفعها لمحكمة الشرطة العليا، وتشريعاً عقوبة الإعدام لم ينص عليها قانون شرطة السودان، ولكنها من العقوبات المنصوص عليها في المادة 30 من قواعد لائحة محاكمات الشرطة لسنة 2002م تعديل لسنة 2004م للنص على إجراءات تنفيذ حكم الإعدام.

وبوجه عام، الدساتير المتعاقبة على الدولة السودانية، والمؤسسة لتنظيم السلطة والحكم، وتقرير الحقوق والحريات، التي تمّ تشريعها خلال حقبة الحكم الوطني، لم تنص بشكل مباشر وصريح على أن يكون للقوات النظامية محاكم ذات إختصاص قضائي لنظر مواد القانون العام الجنائي والمدني والإداري، إنما نصت على أن يكون لها هيئات إدارية ذات إختصاص تأديبي لمخالفة قوانينها الخاصة، وأن يكون التأديب الإداري بمجالس محاسبة تأديبية. وأحكام المحكمة الدستورية المفسرة لنصوص الدستور، جاءت صريحة وبطريق مباشر في حكمها الصادر بالنمرة:م د/ق د/ 243/2015م بتاريخ 15/01/2017م سابقة الرقيب أول شرطة/ نزار هاشم عبدالله بخيت /ضد/ حكومة السودان ووزارة الداخلية، وتمّ نشر الحكم وإعلان المطعون ضده الثاني وحكومة السودان (وزير العدل) بتاريخ 27/02/2017م؛ لتقريرها ضمن أسباب حيثيات حكمها والأمر النهائي(أن التعديل الدستوري الذي تمّ على المادة 148 من الدستور الإنتقالي (تعديل) لسنة 2015م، لم يتح لمحاكم الشـرطة محاكمة منسـوبيها وفق القانون الجنائي). (38)

وبالنظر في الدستور، أحكام المحكمة الدستورية إستند لتقنيات الوسائل الفنية لتفسير النصوص الدستورية.(39) لأنه وفقاً لنص المادة 122/(2) دستور جمهورية السودان الإنتقالي لسنة 2005م بتعديلاته لسنة 2015م، 2017م، الإختصاص الجنائي الممنوح للمحكمة الدستورية لمحاكمة فئات الأشخاص المنصوص عليهم في المادة 122/(2) من الدستور، مُستمد من ذات الدستور بصفة أن المحكمة الدستورية هيئة قضائية أعلى وذات إختصاص نوعي محدد وقيمي مطلق. ولأن ولاية القضاء للفصل في المنازعات والخصومات، تختص به السلطة القضائية وحدها دون سواها، وهو ما عبرت عنه المحكمة الدستورية في الدعوى الدستورية الرائدة بالنمرة:م د/ق د/199/2013م بتاريخ 03/11//2014م السابقة الدستورية الرائدة النقيب شرطة/ أبوزيد عبدالله صالح تكل الله/ضد/ حكومة السودان ورئاسة الجمهورية ووزير الداخلية المنشورة بتاريخ 09/11/2014م بإعلان وزير العدل ووزير الداخلية بها. لتناولها المبادئ الدستورية المتعلقة بالطعن الدستوري، لإرتباط تلك المبادئ في كلياتها بجملة من الأصول الدستورية والأساسية ومبادئ الفقة الدستوري، ومنها مبدأ الفصل بين السلطات، وحاكمية الدستور، وقرينة الدستورية، وولاية المحكمة الدستورية، ومبدأ القاضي الطبيعي والمحاكم الخاصة. (40)

وجاء في حيثييات المحكمة الدستوريه عن مبدأ الفصل بين السلطات وأهميته في نظر الدعوى الدستورية المقامة من الطاعن، بأن مبدأ الفصل بين السلطات يمثل أحد أهم ركائز الدولة الحديثة، وبمقتضاه يتحقق التوازن اللازم بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما يتحقق تساوى وإستقلال كل سلطة عن الأخرى في ممارسة مهامها بحيث تتكامل أدوار هذه  السلطات لخدمة أهداف الدولة وغاياتها كدولة راشدة تحتكم إلى سيادة حكم القانون. وكما يترتب على مبدأ الفصل بين السلطات منافع كثيرة منها وأهمها:(صيانة حرية الأفراد، ومنع الإستبداد، وترشيد أعمال الدولة في إطار التخصص والإمتياز الممنوح لكل سلطة، فضلاً عن ترسيخ مبدأ سيادة حكم القانون ومراقبة إحترامه وحسن تطبيقه، وإرساء قيم العدالة والديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان). وأن موضوع الدعوى الدستورية لا ينفصم عن مبدأ الفصل بين السلطات، لتعلقه بوجود شبهة تداخل الإختصاص بين السلطتين القضائية(ممثلة في محاكمها المحددة في القانون) والسلطة التنفيذية التي أوجد لها القانون محاكم خاصة(محاكم الشرطة) مخولاً إياها إختصاصاً لمحاكمة رجال الشرطة في القضايا الجنائية الواقعة تحت طائلة القانون الجنائي العام عن الجرائم والمخالفات المرتكبة منهم أثناء أو بخصوص عملهم الرسمي.

وموضحة المحكمة الدستورية ضمن حيثييات حكمها دلالة حاكمية الدستور، بأن الدستور هو قانون البلاد الأعلى الذي لا معقب لحكمه، ومصدره الشعب، إذ يعبِّر عن إرادته دون واسطة، وهو بهذه الصفة الفيصل في تقرير سلامة أو بطلان كافة التشريعات الأخرى الصادرة من السلطة التشريعية أصالة أو بالتفويض. ويعني ذلك بداهة، أن كل تشريع يناقض الدستور أو ينتقص من الحقوق الأساسية المقررة بموجبه، يُعتبر تشريع غير ذي قيمة أو أثر، إذا تقرر هذا البطلان من جهة مختصة مخولة بالدستور. وأن مبدأ قرينة الدستورية، يؤسس لقاعدة جوهرية، تفترض إبتداءاً، صحة وسلامة التشريعات الصادرة من السلطة التشريعية(بمختلف مسمياتها)، سواء صدرت مباشرة كانت أو عن طريق التفويض للغير. ولا تُنقض هذه القرينة، إلا بقرار من المحكمة الدستورية (أو أي هيئة أخرى أناط بها الدستور هذا الدور)، إذا ما ثبت لديها تعارض هذه التشريعات مع الدستور ومناقضتها لنصوصه. وأن مبدأ ولاية المحكمة الدستورية مفهومه، أن المحكمة الدستورية تختص وضمن أشياء أخرى بحراسة الدستور(أي حمايته من الإنتقاص والتجاوز)، بهدف ترشيد أعمال الدولة وصيانة حقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية، وكما تختص بالفصل في دستورية القوانين. وأخيراً تناول الحكم تفسير دلالة مبدأ القاضي الطبيعي والمحاكم الخاصة، بتوضيح مبدأ القاضي الطبيعي Natural Judge وهو مبدأ حديث نسبياً، أنه يمثل أحد الضمانات الأساسية لضمان عدالة القضاء في الدولة. وينسجم المبدأ في مجمل أهدافه مع مبدأ الفصل بين السلطات، وأصل المبدأ هو أن يُسند الفصل في الخصومات لجهة مركزية واحدة، تتوافر لها وفيها كافة ضمانات المحاكمة العادلة المقررة في الدستور للبلد المعين، والمقررة في المواثيق الدولية التي تقرّها قوانين ذلك البلد. كما ضرورة أن يتوفر للقائمين عليها(القضاة) التأهيل الفني اللازم، وتراكم الخبرات، لممارسة دورهم بعيداً عن المؤثرات الخارجية، وعلى وجه الخصوص، تدخُّلات السلطتين التنفيذية والتشريعية. وذلك في إطار مبدأ إستقلال القضاء، الذي يمثل بدوره أحد ركائز الدولة الحديثة، ويُعتبر الضمانة الأساسية لحماية حقوق مواطنيها وغيرهم ممن يخضعون لولاية هذا القضاء وسلطانه.

وبالشرح الوافي أبان الحكم الدستوري، إرتباط مفهوم القاضي الطبيعي بمفهوم المحاكم الخاصة التي يتم إنشاؤها بموجب القانون لخدمة قطاعات بعبينها من المجتمع مثل: القوات النظامية والأحداث أو نزاعات فنية ذات صبغة خاصة مثل قضايا الملكية الفكرية والضرائب، وأي محاكم متخصصة أخرى يتحتم وجودها لدواع إستثنائية يقدرها المشرع. لإعتبارات أن المحاكم الخاصة ليس بدعة في النظام القضائي السوداني، إذ هي معمول بها في الكثير من الدول. وقد درجت جُلّ التشريعات المعاصرة والمواثيق الدولية المعنية بتحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان، إشتراط توافر مقومات وضمانات أساسية في عمل المحاكم الخاصة وإجراءاتها. وأهم هذه المقومات أن يتم إنشاؤها بقانون، وأن تتوافر فيها كافة ضمانات المحاكمة العادلة المقررة في المواثيق والعهود الدولية مثل تلك المنصوص عليها في المادة 34 من الدستور الإنتقالي، أو المقررة في وثيقة الحقوق التي تجسد في مجملها خلاصة ما ورد في المواثيق الدولية، وقد عالج الدستور الإنتقالي لسنة 2005م شروط المحاكمة العادلة بصورة واضحة في نص المادة 34 من الدستور، وبصورة أخرى غير مباشرة في مواد أخرى أشار لها الطاعن في عريضة دعواه وهي المواد 1/(2)، 3، 27، 28، 31، 34، 48، 122، 123، 144، 148 من الدستور الإنتقالي لسنة 2005م.

وكما أوضحت الأسباب التحيييثية للحكم، أن الدستور الإنتقالي ينص على نوعين إثنين من المحاكم لا ثالث لهما، وخولها سلطة وصلاحية إجراء المحاكمات، وإصدار الأحكام وفق القانون. وأولهما هي محاكم السلطة القضائية المنصوص عليها في المادة 123 من الدستور التي حددت إسناد ولاية القضاء القومي في البلاد للسلطة القضائية، وعقدت لها إختصاص الفصل في الخصومات وإصدار الأحكام وفق القانون. وأما النوع الثاني من المحاكم التي أقرها الدستور، وخولها إختصاصاً قضائياً، هي محاكم القوات المسلحة المنصوص عليها في المادة 144/(4) من الدستور الإنتقالي لسنة 2005م، وأسند لقانون القوات المسلحة تنظيمها(ولكن لم يرد في الدستور نص صريح ومباشر أن يكون لمحاكم القوات المسلحة إختصاص جنائي). وحيث لم يرد في الدستور الإنتقالي أي نص أو إشارة لمحاكم أخرى لغير هاتين الجهتين، واللتين سماهما حصراً، وقصر عليهما ولاية القضاء، كل في مجاله. وإن كان الحكم في سياق التسبيب التحييثي له، تناول محاكم الشرطة، بأنها ضرورية ولازمة كمحاكم إدارية تأديبية للمؤسسة الشُرطية النظامية شبه العسكرية - مع إشارة الحكم إلى أن تصنيف الشرطة في الغالب هو أنها سلطة مدنية - والغرض من محاكمها ضبط الآداء وتحقيق الإنضباط في قوة الشرطة.

وضمن الأسباب التحيييثية للحكم، أوضحت المحكمة الدستورية في التسبيب للحكم، أن تخويل محاكم الشرطة سلطة إجراء المحاكمات عن الجرائم والمخالفات الواقعة تحت مواد القانون الجنائي والقوانين الأخرى، يُعتبر غصباً صريحاً لولاية محاكم السلطة القضائية، وتغولاً عليها. وكما أنه يفتح باباً لتعدد الولايات القضائية، ويهدم مبدأ الفصل بين السلطات من أساسه. ومن باب المقاربة والمقارنة، أشار الحكم إلى أن بعض دول العالم (حددها بحوالي 70 دولة جلها من دول العالم الثالث) نصت دساتيرها على وجود محاكم خاصة للشرطة أو محاكم عسكرية، ومنحتها الإختصاص في إجراء المحاكمات لمنسوبيها في بعض الجرائم والمخالفات، وبضوابط تتعلق في مجملها بتحقق ضمانات المحاكمة العادلة المتعارف عليها دولياً، ومع حصر إختصاصها في الغالب على الجرائم والمخالفات المتعلقة بصميم العمل العسكري أو الشُرطي، تقريراً لوضع تلك المحاكم كمحاكم تأديب فحسب، لا يتعدى إختصاصها، أو ينفلت، إلى نظر المخالفات الأخرى خارج نطاق العمل العسكري أو الشُرطي، إلا في حالات إستثنائية، لها مبرراتها وضوابطها الموضوعية مثل: حالات الحرب والتمرد المسلح، أو عند إعلان حالة الأحكام العرفية، أو في إطار برامج الدولة لمكافحة عصابات المخدرات والإتجار بالبشر، وغيرها من حالات الإضطرابات والفوضى العارمة المخلة والمهددة للأمن والإستقرار والسلامة والسكينة والطمأنينة العامة.(41)

وينتهي الحكم الدستوري إلى نتيجة مؤداها، أن محاكم الشرطة تمثل أحد أذرع السلطة التنفيذية بحكم تبعيتها لوزارة الداخلية(كذلك برأي أن محاكم القوات النظامية المتمثلة في المحاكم العسكرية هي أيضاً أحد أذرع السلطة التنفيذية بحكم تبعيتها لوزارة الدفاع، وأن محاكم جهاز أمن الدولة(جهاز المخابرات العامة)، بحكم تبعيتها لرئاسة الجمهورية تتبع للسلطة التنفيذية). وبهذه الصفة فإن محاكم الشرطة(وكذلك مثيلاتها في القوات النظامية) تفتقر لصفة الإستقلالية المطلوبة في العمل القضائي، ومن ثم، فإنه وبتقدير موضوعي مجرد، لا يُؤمًن حيادها في معالجة القضايا الخارجة عن نطاق العمل الشُرطي(وقياساً ينسحب ذلك على أعمال ووظائف القوات المسلحة وجهاز المخابرات العامة)، أو الواقعة تحت طائلة القوانين الأخرى، سيما القانون الجنائي العام للبلاد. وخلاصة مرئيات الحكم، لزوم قصر إختصاص محاكم الشرطة(وبلا شك مثيلاتها في القوات النظامية) في إجراء المحاكمات أمامها، فيما يدخل في نطاق إختصاصهم التنظيمي التأديبي المتعلق بصميم العمل الشُرطي وفق أحكام القانون، وهو ما نصت عليه وعبرت عنه المادة 38 من الوثيقة الدستورية لسنة 2019م، لإستثنائها الجرائم والمخالفات التي تختص بها محاكم القضاء العادي من ولاية محاكم القوات النظامية، لأنها من مواد القانون العام الجنائي والمدني، ويختص بها القضاء الطبيعي المدني في السلطة القضائية.(42)

ومن باب الإستئناس والقياس والإسترشاد المقارن، أشار الحكم الدستوري إلى تجربة القضاء المصري الوارد في محكمة النقض المصرية.(43) وذلك فيما يتعلق بإختصاص محاكم الشرطة في إجراء المحاكمات أمامها لرجال الشرطة عن المخالفات الداخلة تحت طائلة القانون العام. ويرى عالمنا الفقيه المرحوم الغائب المقيم مولانا/ عبدالله أحمد عبدالله - رئيس المحكمة الدستورية الأسبق(كاتب الحكم في الرأي الأول) - أن حكم محكمة النقض المصرية، يستند على مبدأ القاضي الطبيعي، وأنه يصلح أساس للقياس عليه فيما يختص بدعوى الطعن الدستوري المقامة من الطاعن، لإرتباط المبدأ في جوهره بمفاهيم حقوق الإنسان، ويمثل مرحلة في تطور هذه المفاهيم في العصر الحديث مع قِدمِه، وكما يمثل علامة فارقة في تطور مبدأي الفصل بين السلطات وإستقلال القضاء، وما يتعلق بذلك من ضمانات المحاكمة العادلة التي حرصت معظم الدساتير الحديثة على تبنيها وإعتناقها. وحيث فكرة القاضي الطبيعي، تقوم على إستصحاب مبدأئ إستقلال القضاء والفصل بين السلطات، وتهدف إلى منع إنتزاع دعوى من قاضيها الطبيعي، لجهة أخرى لا تتوافر لها صفة الإستقلالية اللازمة. وكما يهدف المبدأ(القاضي الطبيعي) إلى حظر وتقليص المحاكم الخاصة أو الإستثنائية قدر الإمكان، والسعي إلى الإحتكام للقضاء العام الذي تتوافر لديه هذه المقومات والضمانات أكثر من غيره.

وفي ذات السياق، من ما عبرت عنه المحكمة القومية العليا في السودان(السلطة القضائية المدنية)، بشأن أحكام المحاكم العسكرية للقوات المسلحة، حكمها بالنمرة:م ع/ف ج/692/2013م بتاريخ 04/12/2013م، محاكمة العقيد ركن/ مختار محمد مختار، لتقديم طلب فحص للمحكمة القومية العليا بموجب المادة 129/(3) من قانون القوات المسلحة لسنة 2007م تعديل لسنة 2013م والمادة 130 من القانون لسنة 2019م، وتمّ الفصل فيه بإعتباره أول طلب فحص يتم تقديمه للمحكمة القومية العليا في السلطة القضائية المدنية، للتعديل لسنة 2013م الذي تمّ على القانون لسنة 2007م بإضافة الفقرة الثالثة الذي أعطى المحكمة القومية العليا سلطة فحص ومراجعة الأحكام التي تصدرها المحاكم العسكرية. وأهمية الإجراء بتقديم طلب فحص للمحكمة القومية العليا، لتصدي الحكم لنص الفقرة الثانية من المادة 129 قانون القوات المسلحة لسنة 2007م تعديل لسنة 2013م. وذلك على خلفية المهنية القانونية العالية للأستاذ/ ميرغني عبدالله البيلي - المحامي للمتهم، لإشارته التحليلية القيمة لمفهوم حكم نص المادة 129 قانون القوات المسلحة لسنة 2007م تعديل لسنة 2013م، ومرئيتى فيما أورده الزميل العالم الأستاذ/ ميرغني عبدالله البيلي المحامي، أن التقييد الوارد في سلطة الفحص أمام المحكمة القومية العليا في حالات حكم الإعدام أو السجن عشرة سنوات فأكثر الصادر من المحاكم العسكرية، لا يتسق مع هرمية الفحص للأحكام المستقر عملياً أمام القضاء العادي طبقاً لسلطة الفحص المنصوص عليها في المادة 188 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م تعديل لسنة 2009م، لإطلاق قانون القوات المسلحة سلطة الفحص لمحكمة الإستئناف العسكرية، وتقييدها أمام المحكمة القومية العليا. وكانت المحكمة القومية العليا قد تصدت للطلب المقدم، بقبوله شكلاً، والفصل فيه في الموضوع، بإلغاء حكمي محكمة الإستئناف والمحكمة العامة العسكرية، ووضع أوراق القضية أمام محكمة الطفل للنظر، لعدم إختصاص المحاكم العسكرية في محاكمة المتهم طالب الفحص. وكان قد شاب هذه القضية لغط كثيف بشأنها أمام المحاكم العسكرية في التحري والتحقيق والمحاكمة، وكذلك أمام القضاء المدني في محكمة الطفل، بتبرئة المتهم إبتداءاً. وصدور قرار من محكمة الإستئناف بإعادة المحاكمة، ومن ثمّ، الطعن بالنقض في الحكم لإسترداد براءة المتهم، وصدور قرار من محكمة الموضوع بإدانة المتهم والعقوبة بالسجن سبعة سنوات والغرامة، وفي مرحلة الإستئناف للمرة الثانية صدور قرار بتأييد الإدانة وتخفيض عقوبة السجن ثلاثة سنوات، والطعن بالنقض والمراجعة من المتهم، بإثارة أسانيد وحجج قواعد الإثبات في دعاوى قضايا الطفل في الشريعة الإسلامية والقانون، وصدور قرارات بتأييد الإدانة والعقوبة. وأخيراً طعن دستوري، إنتهي بشطب الدعوى الدستورية.(44)

من المتابعة لأثر الحكم الدستوري لسابقة النقيب شرطة/ أبوزيد عبدالله صالح تكل الله المسجلة قيودات المحكمة الدستورية بالنمرة:م د/ق د/199/2013م بتاريخ 03/11/2014م المعلنة بتاريخ 09/11/2014م، والمناقشات وهمس الحوارات الصريح والمباشر بشأنها من المهتمين والمختصين في وزارة العدل ووزارة الداخلية ووزارة الدفاع. ترتب على تلك السابقة دواعي الحاجة للتعديل التشريعي لسنة 2013م الذي تمّ على المادة 130 قانون القوات المسلحة لسنة 2007م، وبما في ذلك التعديلات اللاحقة لقانون القوات المسلحة لسنة 2019م، لإستحداث النص الوارد في المادة 37 من الوثيقة الدستورية لسنة 2019م على الوجه الذي بيناه في موضعه. ولتأثر منظومة التشريعات العسكرية بالتشريعات الدولية والإقليمية، للإنتقادات الحادة من مؤسسات دوليه حقوقية وعدلية، بشأن إدعاءات إنتهاكات حقوق الإنسان في السودان، ومطاعن مخالفة تشريعات المنظومات العسكرية لأرزومات المواثيق والصكوك الدولية الداعية لتعزيز وصيانة حقوق الإنسان. وخاصة بعد الحكم الدستوري لسابقة النقيب شرطة/ أبوزيد عبدالله صالح تكل الله(الرائدة)، وطلب المراجعة للحكم الذي كان قد تمّ تقديمه من المطعون ضدها رئاسة الجمهورية بالنمرة:م د/ق د/199/2013م/ مراجعة/01/2015م، والمراجعة بالنمرة:م د/ق د/199/2013م/ مراجعة/39/2014م، وصدر فيهما حكم بشطب طلب المراجعة بتاريخ 22/01/2015م وتمّ إعلانه بتاريخ 26/07/2015م. ومؤدى أسباب طلب المراجعة، تقديم طلب من رئاسة الجمهورية للمحكمة الدستورية، وتأثيرات على المحكمة الدستورية لسحب حكمها في الدعوى الدستورية.(45)

وإزاء الأحكام الصادرة من المحكمة الدستورية بشأن محاكم الشرطة، صدرت تعديلات تشريعية في الدستور لسنة 2015م لامست المواد 148، 151 من الدستور الإنتقالي لسنة 2005م، بالنص صراحة في الدستور على أن يكون للشرطة محاكم، وأن يكون لجهاز الأمن والمخابرات الوطني محاكم. ومن أسباب التشريع للنص في الدستور على أن يكون للشرطة ولجهاز الأمن الوطني محاكم خاصة لها، الإعتراف بعدم دستورية محاكم الشرطة، ومحاولة علاج ذلك بطريقة دستورية. وقد تمّ التعبير عنه أمام البرلمان من مسوغات أهل الشأن المعنيين بقيادة الشرطة، وقد تبدى ذلك جلياً عند إيداع مشروعات التعديل للدستور، ومن ثمّ، جدل الحوار والنقاش حول طبيعة محاكم الشرطة من الرسميين واضعي سياسات التشريع. ومن مؤثرات قياسات الرأي العام بشأن ماهية طبيعة محاكم الشرطة، إتجه الرأي إلى إنشاء محاكم خاصة للشرطة على غِرار وأنموذج محاكم حركة المرور ومحاكم الملكية الفكرية ومحاكم الصحافة والمطبوعات ومحاكم المعلوماتية ومحاكم البيئة ومحاكم الطفل، أسوة بتجرية المملكة الأردنية الهاشمية، لهيكلتها محاكم أجهزة القوات النظامية ضمن محاكم السلطة القضائية كمحاكم خاصة يشغلها ضباط عسكريين من الشرطة(الأمن العام) والقوات المسلحة الملكية الأردنية.(46) إلا أن الرأي المؤثر في البرلمان الثنائي الغرفتين - المجلس الوطني ومجلس الولايات (بحسبما كشفت عن ذلك الدكتورة/ بدرية سليمان عباس رئيسة اللجنة البرلمانية الطارئة المكلفة بمراجعة التعديلات المقترحة على الدستور لسنة 2005م) - هو الإعترض على إنشاء محاكم خاصة للشرطة داخل هرمية أبنية محاكم السلطة القضائية، وفكرة إنشاء محاكم شرطة خاصة، للفصل في البلاغات والمحاكمات الجنائية الموجهة ضد منسوبي الشرطة. ومقترح التشريع لتعديل نص المادة 148 من الدستور لسنة 2005م، تقدمت به رئاسة الجمهورية. ودواعي المقترح المقدم للتعديل، لإصدار محكمة الجنايات العادية حكم قضائي بإيقاع عقوبة الإعدام على أحد ضباط الشرطة، كان على رأس قوة من الشرطة، تعمل لضبط النظام العام، بتنظيم حملات على أماكن صناعة الخمور البلدية في حي الديوم وسط الخرطوم، وحكم الإعدام لإدانة ضابط الشرطة بقتل المواطنة عوضية عجبنا، لإعتراض قوة الشرطة أثناء عملها. وكذلك من تبريرات التعديل للمادة 148 من الدستور، لإلغاء المحكمة الدستورية إختصاص محاكم الشرطة بمحاكمة منسوبي الشرطة في الجرائم التي تقع تحت طائلة القانون الجنائي العام، لفصلها في الطعن الدستوري قيودات المحكمة الدستورية المشهورة بسابقة النقيب شرطة/ أبوزيد عبدالله صالح تكل الله بالنمرة:م د/ق د/199/2013م، لإتهامه قيادات وزارة الداخلية برئاسة قوات الشرطة بالفساد، وواجه حكماً بالسجن. وبطعن دستوري تدخلت المحكمة الدستورية، وأصدرت حكماً دستورياً قضى بإلغاء الإدانة والحكم الصادر من محاكم الشرطة. وتبريرات الرفض للتعديل المطلوب للمادة 148 من الدستور، أن الوقت غير مناسب ومهيأ لإدراج التعديلات المطلوبة في الدستور في راهن ذلك الوقت، ولأن التعديل المتعلق بإنشاء محاكم خاصة لقوات الشرطة، موجود في قانونها.(47)

من المناقشات وجدل الحوارات من المعنين المهتمين بوضعية أجهزة القوات النظامية في أروقة السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، يستخلص منها دواعي الحاجة لتعديل نص المادة 148 من الدستور لسنة 2005م(وضعية محاكم الشرطة)، وما تلاها من تعديلات تشريعية أخرى في المادة 151 من الدستور لسنة 2005م(محاكم جهاز الأمن والمخابرات الوطني)، وتعديل تشريعي لنص المادة 130/(3) من قانون القوات المسلحة لسنة 2007م تعديل لسنة 2013م(فحص أحكام محكمة الإستئناف العسكرية أمام المحكمة القومية العليا)، إذ بمقتضاها تتضح نية المشرع وقصده من التعديل للنصوص التشريعية التي تمت في الدستور والقانون. فالإرادة الحقيقية للمشرع من التعديلات هو تخفيف حدة تعدد أنواع المحاكم خارج المنظومة القضائية في السلطة القضائية، لإنشاء محاكم خاصة في السلطة التنفيذية ومستقلة عن محاكم السلطة القضائية. وإرادة المشرع نستخلصها من سلسلة الأعمال التحضيرية للتعديلات الدستورية لوضعية محاكم الشرطة ووضعية محاكم جهاز الأمن والمخابرات الوطني، للنص عليهما صراحة وبطريق مباشر في الدستور، وتعديل قانون القوات المسلحة في سلطة الفحص للمحكمة القومية العليا في السلطة القضائية لأحكام محكمة الإستئناف العسكرية المقررة في قانون القوات المسلجة. وأيضاً يمكن إستخلاص دواعي الحاجة للتعديلات، بتتبع الأصول التاريخية التشريعية لنشأة قضاء ومحاكم القوات النظامية وإختصاصاتها المحددة في قوانينها، بنظر الجرائم والمخالفات ذات الطبيعة المهنية، ولا تتعداها، وتوقيع جزاءات تأديبية محاسبية مجلسية ذات طابع إداري. وكذلك من ما قررته الشرائع الدولية من مبادئ مقررة في الصكوك والإتفاقيات الدولية الجماعية والنظم الديمقراطية المقارنة المعتبرة والمقبولة التي تتفق مع مجموعة القيم والثقافة السائدة في المجتمع، وخاصة إعتبارات الوضع المتميز لبعض الحقوق والحريات الأساسية للإنسان المتعلقة بمعايير وأسس المحاكمة العادلة المنصفة. وذلك لإخضاع قانون القوات المسلحة وقانون جهاز الأمن والمخابرات الوطني أحكام الإعدام والسجن عشرة سنوات لولاية السلطة القضائية، وللنص في المادة 46/(2) من قانون شرطة السودان لسنة 2008م بتعديلاته على إحالة أي دعوى جنائية لمحكمة عادية مختصة، إذا إقتضت العدالة ذلك. وجوهر مقتضيات العدالة هنا تكمن في معنى ودلالة المساواة والعمومية للمخاطبين بالقانون والخاضعين له، وذلك نظراً لمفهوم وفكرة العدالة، بأنها قيمة إجتماعية عليا عقلانية، يسعى ويهدف القانون إلى تحقيقها، ولأن العدالة مصدر رسمي وإحتياطي للقانون، لسد القصور والنقص في التشريع للقانون.(48) مما يعني ذلك، مراعاة قواعد الإختصاص النوعي لمحاكم القوات المسلحة والشرطة وجهاز الأمن والمخابرات الوطني التابعة للسلطة التنفيذية، بأن لا تتغول ولا تتعدى محاكمها على إختصاصات محاكم السلطة القضائية، لإطلاقية إختصاصها بمسائل قواعد القانون العام الجنائي والمدني والإداري. ولكن عيب التشريع في الصياغة الفنية المعيارية، وحالات التعبير اللغوي الهلامي الفضفاض الغامض لنصوص القواعد القانونية المُشِرعة لقوانين أجهزة القوات النظامية، وعدم مراعاة وإحترام القواعد الأصولية في الصياغة القانونية للقاعدة التشريعية، لتجاوز التعارض والتداخل بين نصوص تشريعات قوانين تحكم مسألة معينة ذات طابع عام. مؤداه الحتمي، إصدار تشريعات قوانين مخالفة للدستور والقانون، وذلك على النحو الذي به صدرت تشريعات قوانين القوات النظامية، لتأثر تشريعاتها بطبيعة وآيديولوجيا الأنظمة السياسية المتعاقبة على السلطة والحكم الوطني منذ تاريخ 01/01/ 1956م، وبوجه خاص فترات الحكم العسكري والشمولي لحقبة سلطة 25 مايو 1969م وسلطة الثلاثين من يونيو 1989م. وحيث في الوثيقة الدستوية لسنة 2019م تمّ تصحيح وضعية قضاء ومحاكم القوات النظامية وإختصاصاتها، بإنشاء قضاء ومحاكم عسكرية للقوات النظامية، تكون مستقلة عن السلطة القضائية، وحصر إختصاصها النوعي بأن تنظر وتفصل في الجرائم والمخالفات ذات الطابع المهني المتعلق بقواعد السلوك المهني المنصوص عليها في قوانينها الخاصة. وبلا شك، أن لا يُنص تشريعاً في قوانينها الخاصة على أية أفعال أو سلوكيات تشكل في ذات الوقت جريمة أو مخالفة في القانون الجنائي العام. وذلك لتجاوز الإختصاص المدني التبعي للأحكام في التنفيذ المالي أمام محاكم القوات النظامية.

وعملياً من واقع أعمال قضاء ومحاكم القوات النظامية، ودون تناول النظر والتفصيل لأنواع محاكمها المنصوص عليها في قوانينها الخاصة، ودون التطرق لإجراءات المحاكمات أمامها. فإنه وتبعاً لتقنيات المصطلح الفني المتداول المستخدم لتعريف كلمة المحكمة، وبحسبما أشار له الإطار الدولي لتميز المحاكم Intrenational Famework for Courts Excellence الذي وضعه الإتحاد الدولي لتميز المحاكم Intrenational Federation of Courts Excellence لتقييم آداء المحاكم والإجراءات القضائية أمام المحكمة، مصطلح المحكمة يُستخدم لجميع الهيئات التي تشكل جزءاً من النظام القضائي الرسمي للدولة، ومن الناحية الفنية، المصطلح يشمل جميع المحاكم والهيئات القضائية الأخرى التي يتمثل نشاطها بالفصل في أي مسائل بنزاهة وعدل على أساس من القانون، وبطريقة ملزمة للأطراف المعنية. وتبعاً لأسس معايير النزاهة والعدالة والقانون التي تقوم عليها قواعد الجودة والتميز وفاعلية الإجراءات القضائية للمحاكم الوطنية المعتمدة والمقررة دولياً، والمقبولة لكل دولة بحسب نظامها الداخلي، وبتحليل الثقافة التنظيمية للمحاكم الوطنية المحلية، وتحديد الأنماط الموصى بها دولياً والمقبولة عرفاً والمعترف بها، وإعادة توزين معايير النموذج الدولي لتميز المحاكم بما يناسب الطابع الوطني المحلي. (49)فإن قضاء ومحاكم القوات النظامية كنظام قضائي مقرر في النظام القانوني والقضائي، محاكم خاصة، وتحكم فئات خاصة من أشخاص مجتمع الدولة المعنية، ولها قوانينها الخاصة التنظيمية لها. وعملياً بلا شك، هذه المحاكم تفتقر القيم الأساسية لعمل المحاكم العادية الطبيعية المهيكلة في السلطة القضائية للدولة، وهي قيم المحاكمة العادلة المنصفة، وقيم المساواة والعدالة في الحماية التي يكفلها القانون لجميع الأشخاص الذين لديهم إجراءات محكمة يتم النظر فيها أمام المحاكم بشكل عام. وكما أنها تفتقر لقيم المبادئ الأساسية التي تتبعها المحاكم في سلوكها المهني القضائي المتعارف عليه وسط المشتغلين في مهنة القانون، وهي القيم الثابتة الراسخة في عقل ووجدان ضمير القاضي والمشتغلين في مهنة القانون، لتربيتهم عليها مهنياً ناشئين، ولإكتسابهم بالتعليم الأساسي والعام والمتخصص والمتقدم قدرات العلم والمعرفة من علوم القانون، والقدرة على ممارسة العمل القانوني والقضائي عملياً، وصقل وتجويد القدرات المكتسبة وتطوريها للأفضل، بالتديب والتأهيل المستمر أثناء مزاولة الخدمة القضائية أو العدلية بالنسبة للقضاة وإستشاريو القانون العاملين في الدولة، ورفع القدرات الذاتية للمشتغلين في المحاماة وإستشارات القانون. لإعتبار القيم المهنية والسلوكية الرفيعة والعالية، تضمن جودة وتميز وفاعلية أعمال المحاكم والإجراءات القضائية المتخذة أمامها، وتعمل على رفع قدرات القاضي العلمية والعملية وتمكينه على قدرة إتخاذ قرارات وأحكام قضائية تستند إلى فهم دقيق للقانون المطبق الساري المفعول، إستناداً على حيثيات من واقع ملف القضية. لإعتبارات راسخة في أعمال مهنة القانون والقضاء والإجراءات القضائية أمام المحاكم، بأن قيم السلوك المهني الأساسية للمشتغلين في مهنة القانون، تدور حول قيم العدالة وعدم التحيز والإستقلالية والحيادية، وقدرة الفهم للقانون تطبيقاً له بتفسيره وتأويله. ولإرتباط الإستقلالية والكفاءة في أعمال المحاكم - في المقام الأول - بقدرة القاضي على إتخاذ قرارات قضائية تستند فقط إلى الفهم الدقيق للقانون المطبق، وتقوم قراراته والأحكام القضائية على أسباب تحييثية واضحة وسهلة يسطرها القاضي من واقع محضر القضية التي نظرها القاضي.(50)

وقياساً على أسس معايير قيم المحكمة التي تضمنها إطار تميز أعمال المحاكم التي وضعها الإتحاد الدولي لتميز المحاكم Intrenational Federation of Courts Excellence، إفتقار قضاء ومحاكم القوات النظامية لقيم أعمال المحكمة وسلوكياتها المهنية. ومن أسبابها الجوهرية، تأثر أعمال تلك المحاكم بجهات أمر تشكيلها الرئاسي والتبعي المباشر لوحداتها الإدارية النظامية ذات الطابع العسكري التنظيم والإدارة تشريعاً لهما، ولتربية القائمين على أعمال قضاء ومحاكم القوات النظامية على الطاعة والإنقياد الأعمى والمطلق في تلقي التعليمات والأوامر وتنفيذها من القائد والضابط الأعلى المسئول المكلف أو المفوض. وبالتالي مؤداه، تغليب عدم المساواة والعدالة أمام القانون وعدم الإنصاف، وإبداء مظاهر التحيز وعدم الإستقلالية في عمليات صنع القرارات والأحكام القضائية، وبما فيه صانع القرارات والأحكام القضائية، بدءاً من مرحلة ما قبل إجراءات المحاكمة(مماثلة لإجراءات التحري والتحقيق في القانون الجنائي العام)، وتبدأ بمباشرة الجهة الإدارية للقوة النظامية لإجراءات مجلس التحقيق، بتحديد وتسمية منّ يتولى التحقيق بقرار يصدر من رئيس الوحدة أو الضابط الأعلى المسئول أو الضابط المكلف أو المفوض، وتقييم الوقائع والأدلة من رئيس مجلس التحقيق، وتوجيه التهمة والأمر بإحالة المتهم للمحاكمة بقرار يصدر من رئيس الوحدة الإدارية للقوة النظامية، بتحديد وتسمية منّ يتولى إجراءات المحاكمة. ومن ثمّ التدابير الإجرائية أثناء إجراءات المحاكمة في مرحلة أخذ البينات وتقديم الطلبات المناهضة والعارضة من الدفاع والإتهام، بقبولها أو رفضها من رئيس المحكمة(وهو قاضيها). ومن ثمّ إجراءات المحاكمة عند إصدار القرار والحكم القضائي بالنطق بالحكم وكيفية تنفيذه. ومراحل درجات الطعن الإستئنافي أو النقض أو الفحص، بتقديم الطلبات للضابط الأعلى المسئول المكلف بتولى أعباء أعمال الشئون القانونية للوحدة الإدارية المركزية للقوة النظامية، وهو ضابط يتم إختياره مِن وسط الضباط بالنقل العادي أو بالترقي لا بالتعيين، شريطة أن يكون وضع أقدميته في الوحدة الإدارية الأقدم رتبة، وأن يكون من الحاصلين على مؤهل في أعمال مهنة القانون.

ومن الواقع العملي التقييمي والتقويمي لأعمال قضاء ومحاكم القوات النظامية وإجراءات المحكمة فيها، ما يعيب قراراتها وأحكامها، إصدار قرارات وأحكام قضائية رغم عدم إختصاص وصلاحية المحكمة. وكذلك إفتقارها لمقومات النزاهة والشفافية، وهي معايير ذات صلة بإجراءات المحكمة،  إذ يجب أن تتسم الإجراءات بالنزاهة والفعالية والكفاءة. ومن ما يعيب أعمال قضاء ومحاكم القوات النظامية وإجراءات المحاكمة أمامها، عدم سهولة الحصول على العدالة بتسهيل الإجراءات القانونية، بإستخدام مرافق المحكمة على نحو فعال، لتسهيل عملية الحصول على معلومات دقيقة وكاملة للعملية القضائية ونتائج القضايا الفردية. وعدم الإلتزام بالمواعيد، بالقدر الذي يحفظ التوازن الواجب بين الوقت اللازم للحصول على الأدلة وتقديمها وتقييمها على النحو الصحيح السليم، لتقييم القانون الموضوعي والإجرائي لتقديم المرافعات، ومن ثمّ تقييم  رئيس المحكمة (القاضي) للمرافعات بالنظر لها من رئيس المحكمة. وما تتسم به أعمال قضاء ومحاكم القوات النظامية ضعف وفقدان الثقة في أعمال إجراءات المحكمة وقراراتها وأحكامها من جمهور المتقاضيين أمامها من منسوبي القوات النظامية والخاضعين لقوانينها. فالعدالة وفقاً للمعمول والمتعارف علية فقهاً وقضاءاً، يجب أن لا يتم تطبيق العدالة فحسب، بل يجب النظر إليها أولاً قبل تطبيقها.(51)

وتقييم وتقويم عام للأحكام الصادرة من قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، من ما إستقر عليه العمل قضاءاً أمام القضاء العادي الطبيعي إستناداً لسابقة الهيئة المركزية للمياه والكهرباء/ضــد/ محمد حامد أحمد قيودات المحكمة العليا بالنمرة:م أ /أ س م/3/1971م، مجلة الأحكام القضائية لسنة 1972م، ص85، الأحكام الصادرة من الهيئات القضائية من غير محاكم السلطة القضائية، أحكام صادرة من هيئات إدارية، وقراراتها قابلة للطعن فيها أمام القضاء العادي الطبيعي(محكمة الطعون الإدارية)، لإعتبارها قرارات إدارية تأديبية تصدرها مجالس إدارية محاسبية، وليست محكمة بالمعنى الإصطلاحي الفني المتعارف عليه في القانون والقضاء. وإن كان حكم قضائي مماثل غير منشور صدر من المحكمة العليا بالنمرة:م ع/ط إس/161/2009م فيما بين الحزب الإتحادي الديمقراطي/ ضد/ مجلس شئون الأحزاب، جاء بحكم مخالف عن ما إستقر عليه العمل القضائي، وبمقتضاه الحكم أخرج أحكام الهيئات القضائية من غير محاكم السلطة القضائية من إختصاص رقابة القضاء الإداري، لإعتبارها من القرارات القضائية.(52)

8. الخاتمة والنتائج والتوصيات:

خلاصة الدراسة تنتهي للخاتمة ونتائج وتوصيات أساسية، نأمل أن تعين المشتغلين الباحثين والمهتمين بشئون وقضايا أجهزة القوات النظامية، بقدر ما يُمكِّن من أن يلفت الإنتباهه والإهتمام بهذه الفئة الشريحة الهامة في المجتمع والدولة، لإحداث تغييرات في تشريعات قوانينها الخاصة، لإنشاء قضاء ومحاكم ذات إختصاص نوعي وفعّال، وتحديد إجراءات المحاكمات أمامها، بالقدر الذي لا ينتهك ولا يهدر بأسس معايير المحاكمة العادلة المنصفة. ولتوفير إصلاحات حيوية وجوهرية لتحقيق التميز والجودة لإجراءات المحكمة أمام قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية، لتكون الإجراءات القضائية أكثر فاعلية، بما يمكن المحكمة من تحقيق دورها الحيوي وسط منسوبي أجهزة القوات النظامية، بتعزيز قيم المحاكمة العادلة المنصفة، وبسط قيم العدالة، ونيل رضاء منسوبي أجهزة القوات النظامية، وأن تتسم إجراءات المحكمة بالنزاهة والشفافية، وسهولة الحصول على العدالة، وأن تكون الإجراءات القضائية أمام المحكمة واضحة وعلنية، لتجاوز تأخير المواعيد الامبرر واللامعقول لإصدار القرارات والأحكام القضائية، بأن تصدر القرارات والأحكام بشكل ناجز وسريع وعادل.

(أولاً) النتائج:

1. الأصل وحدة النظام القضائي في الدولة، وأن ولاية القضاء تكون للسلطة القضائية، وإستقلال السلطة القضائية عن سلطات الدولة الأخرى التشريعية والتنفيذية. وإختصاص محاكم السلطة القضائية بالنظر والفصل في الخصومات بين الأفراد وفق القانون.

2. إستقلال السلطة القضائية عن السلطات الأخرى التشريعية والتنفيذية، لا يعني الإنفصال والتباعد

التام لإجهزة وسلطات الدولة الثلاثة، إنما التعاون والتآذر بينها، دون تعدي سلطة على إختصاصات وصلاحيات سلطة أخرى. وإن كان وفقاً للنظام الدستوري والقانوني السياسي للدول ذات نظام الحكم الفيديرالي اللامركزي في الإدارة والحكم، أنه يتعدد فيها مستويات الحكم والسلطة، وتبعاً له، يتعدد النظام القضائي، ولكن قمته المستوي الإتحادي الفيديرالي.

3. أجهزة القوات النظامية من أجهزة إنفاذ القانون، ووفق القانون تحتكر إستخدام سلطة العنف المادي للدولة بأشكاله، لفرض سلطة وهيبة القانون، لحفظ نظام وصالح وخير عام الدولة.

4. إنشاء قضاء ومحاكم لأجهزة القوات النظامية، إستدعته الطبيعة والظروف العملية الخاصة لنشأة أجهزة القوات النظامية، ودواعي أن يكون لأجهزة القوات النظامية محاكم خاصة، لتمكينها من تأدية وظيفتها لتوفير خدمات الحماية والأمن للمواطن وللدولة. 

5. محاكم أجهزة القوات النظامية في الدول المتقدمة المتمدينة المتمقرطة، محاكم خاصة منشأة بقانون ومن ضمن محاكم السلطة القضائية. 

6. لدواعي أسس معايير المحاكمة العادلة المنصفة، ولتحقيق التميز للمحكمة، الإجراءات القضائية لأعمال قضاء ومحاكم الشرطة، تخضع للإجراءات القضائية العادية المقرر في النظام القانوني. 

7. قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية في السودان، محاكم خاصة، مقررة بدستور، ومنشأة بقانون خاص، والقانون يحدد إجراءاتها القضائية وتشكيل المحكمة، وتتبع للسلطة التنفيذية. 

8. قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية في السودان، تفتقر لأسس معايير المحاكمة العادلة المنصفة، وكما تفتقر لفعالية الوصول للعدالة والإنصاف. ويشوبها شائبة عدم التميز لقيم المحكمة، لعدم جودة الإجراءات القضائية أمامها.

(ثانياً) التوصيات:

1. مراعاة لمعايير المحاكمة العادلة المنصفة ومبادئ التكاملية الوظيفية بين الأجهزة القضائية في السلطة القضائية ومحاكم أجهزة القوات النظامية في السلطة التنفيذية في إجراءات التقاضي والمقاضاة. العدالة تقتضي النظر في القرارات والأحكام القضائية الصادرة من محاكم أجهزة القوات النظامية، بأنها قرارات وأحكام قابلة للطعن الإداري فيها أمام محاكم السلطة القضائية.

2. إعادة النظر في تشريعات قوانين أجهزة القوات النظامية، بأن تكون تشريعاتها أكثر فاعلية في تحقيق العدل والعدالة لحماية وتعزيز الحقوق لمنسوبيها الخاضعين لها.

3. حصر إختصاص قضاء ومحاكم أجهزة القوات النظامية تشريعاً له في القانون، بأن تختص بالنظر والفصل في الجرائم والمخالفات المهنية، دون التعدي لجرائم ومخالفات القانون العام الجنائي والمدني والإداري.

4. رفع قدرات وكفاءة المكلفين بأعمال الإجراءات القضائية لمحاكم أجهزة القوات النظامية من الضباط رؤساء محاكم الموضوع وأعضاء المحاكم الإستئنافية، ورفع قدرات ضباط الصف والجنود المكلفين بالأعمال المكتبية الديوانية للمحاكم، بالتدريب والتأهيل المستمر أثناء الخدمة، والإستعانة بالخبرات السابقة من الضباط وصف الضباط في التدريب والتأهيل.

5. إنشاء محاكم خاصة في السلطة القضائية بأمر تأسيس لها يصدر من رئيس القضاء، يتولاها ضباط من أجهزة القوات النظامية من المؤهلين الحاصلين على شهادة في القانون معترف بها، وله الخبرات الكافية في أعمال القانون، للفصل والنظر في الجرائم والمخالفات الواقعة تحت مواد القانون العام التي يرتكبها منسوبي أجهزة القوات النظامية.

6. النص تشريعاً في القانون على أن يكون لضباط أجهزة القوات النظامية المؤهلين في مزاولة أعمال مهنة القانون، الحق في الظهور والترافع أمام كافة درجات المحاكم في القضايا والمسائل ذات الصلة بأعمال أجهزة القوات النظامية.

7. تشجيع البحوث والكتابة والأبحاث العلمية عن قضايا أجهزة القوات النظامية، لأهمية وظيفة القوات النظامية في المجتمع والدولة، لتقديمها خدمة الحماية والأمن، ولتعزيز وتطوير وظائفها المتصلة بقضايا حقوق الإنسان.

إنتهي بحمده، والله المستعان


لواء شرطة (حقوقي)

د. الطيب عبدالجليل حسين محمود

المحامي إستشاري القانون المحكم والموثق

06/12/2020م


 📌لمتابعة جميع المقالات و الاخبار و الوظائف و الدورات التدريبية القانونية عبر قروبات "وعي قانوني" انضم لاحد القروبات

 بالضغط هنا ⚖️ أو للمتابعة عبر تطبيق "خدمات قانونية" قم بتحميله بالضغط هنا

♻️ شارك المنشور تكرما ♻️
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -